“قد علمتنا البيداء أن نصبر طويلا، وقد تموت الصحراء أعواماً كثيرة، ولكنها لا تميت أهلها أبداً”.
هكذا ختمت “الحويطات” كلامها قبل أن تدبر مبتعدة عن البئر وقد تحيّرت في مُقلتيْها دمعة خرساء لا تَهمي وليس تَغورُ، مقبلة على القرية كأنّها بطلٌ تَكَنَّفَهُ العِدى بسيوفهم وحُسامهُ مَكسورُ. من تكون “نيوم” ومالذي يريده صاحبها من أبناء القرية والقبيلة؟ أ تراها طبول الحرب تُقرع؟ ثمّ كيف لصاحب الكلبة أن يتنكّر لقبيلتها التي اكتسبت اسمها منها؟ “الحويطات” واحدة من أبرز القبائل في الوطن العربيّ وأكثرها تشعّبا، يستوطن أبناؤها أربعة من أهمّ الدول العربيّة، وهي فلسطين، ومصر، والسعودية، والأردن، منذ ما قبل ظهور آل سعود، نخيلها بقِدم زيتون فلسطين، أمجادها خالدة ليوم الدين، بطولاتها عنوان شهرتها في العالمين، شرّد ثوّارها بالإنجليز واستنزفوا الفرنسيين.

ومشت متثاقلة يُسمع لوطأة خُفّها دويُّ، مغاضبة يُفسِح لها الهزبر القويّ، مزمجرة كأنّها المغوار الأبيّ. لم يكن حبّها للخريبة وللحويطات ادّعاء ولا تعوّدا، هو أصالة متجذّرة عميقة نبيلة، وفخر بتاريخ مجيد ملؤه التضحية والجود بالنفس. وبينما وصلت إلى مشارف القرية تبادر إلى مسامعها صراخ وعويل، وإذا القوم مجتمعون أمام خيمة سيّدها، وقد أحاطت بهم هالة من الغبار، والصبية هنا وهناك متناثرون، والنسوة في سواد يولولون، والشيوخ بخشوع ووقار يكبّرون، ونعى النُّعاةُ “أبا أنس الطيب”، فـــــسالتْ الأرض بها وترنّحت كأن زالتْ رواسيها، وصرخ الجمعُ “أبا أنس لا خيرَ في الدُّنيا وما فـــــيها إن أنتَ خلَّيتها في من يُخلّــــــــيها”. قُتِل صاحبها “عبد الرحيم الحويطي” بيد الغدر، اِستُشهد هذا الذي تعرف الصّحراء وطأته، أكرم الناس إذا أعطى، وأشدّهم إذا بطش، وأوفاهم إذا وعد، وأشجعهم إذا أقدم، غلوٌّ في كلّ شيء. وشقّ صدر “الحويطات” كلمات كان قد همس لها بها عن “الخريبة” قبيل رحيله، لكم حدّثها عنها وأوصاها
أن تتعلّل من هوائها، وتملأ بصرها من أنحائها، وسمعها من أبيات شعرائها، وروحها من أفيائها، كأنّه كان يبصر الغيب، ـ رحمه الله ـ.

وتقدّمت صامدة واثقة وكلّ ما فيها مشتّت متمزّق، والملأ من حولها ينظرون من طرف خفيّ ويتهامسون: “قد أقبلت الحويطات”. وكانت في استقبالها “عليا”، فرسٌ إذا رأيتها رأيت العـزّ ظـاهراً، تـنجي من الغمى وتكشف الدجى، تخرج من خلل الغـبار عابـسة كأصابـع المقرور أقعى فـاصطلى، مـفـداة مـكـرّمة عـلى القبيلة، يـجوع الـعـيال ولا تُـجوع هي، سليلة جواد الفارس الحويطي “عودة بن حرب أبو تايه”، “عقيد القوم” ذو المواقف التاريخيّة الذي مات وما في جسده موضع شبر إلا وفيه ضربةٌ أو طعنة أو رَمْية. و”عليا” فرس شديدة جامحة، تهبُّ عندما تشتد النوائب، وتُقبلُ عندما تُمتحَن الهمم والعزائم، وتتقدّمُ عند تزاحم الصفوف وزحف الجيوش ومقارعة الأعداء، فأمّا الخيل فللرعب والرهب، وأمّا البراذين فللجمال والدعة، وأمّا “عليا” فللمقاومة والنّصر. كان المصاب جللا، فالرّجل قُتل دفاعا عن أرضه وعرضه، والقاتل ابن عمّ غادر لم يحفظ في المقتول عهدا ولا ذمّة، والأنكى أن عشرات من أبناء القبيلة بين مختف ومختطف ومسجون بينما يقف الآلاف الآخرون على عتبة التّهجير القسري.
ــ الله أكـبـر عـلـى الـغـدّار لا تـنـسـي أذاه، أبو “نيوم” غدرنا شوفي الجـرح يعطيـك النبـاه، لا تصالحي! ذهبَ الصُّلحُ أو يردُّوا “أبا أنس” أو نُذيق الغداة “آل نيوم” ثُكْلَا، إنّي رأيتُ يدَ الحضارةِ أولعَت بالحقِّ هَدما وخرابا، ذهبَ “عبد الرّحيم” وأنتِ يا “الحويطات” باقيةٌ فاحشُدي رِجالكِ واخترِي الزُّعماءَ.

ــ وربّ “عبد الرحيم” لن أُصالح! فما نحن من ألف دوس الرقاب، وما تصاغرنا ولا تذلّلنا وما تملّقنا ولا كُسر الكبرياء فينا. ونحن أسود الوغى فليشهدوا يا “عليا” وثوب أسودنا يوم الصّدام، ونحن الذين نشرب إذا وردنا الماء صفوا، ويشرب غيرنا كدرا وطينا، ولنقطعنّ دابر الذين ظلموا ولنُخرجنّهم منها صاغرين.
والله يا حروف الوطن زيّ العقد في الصدر ما احلاه
الحاء “حويطات” الحبيبة ما أغلى الوطن يا عرب ما اغلاه
والواو “وصيّة” عبد الرحيم “لا تصالح” والڨلب متڨطّعه ثناياه
والياء “يا” أهل المراجل لمّ الشّمل ماحلاه
والطاء “طلعة” بدر على “شهيد نيوم” في ثراه
والألف “الله” على الظّالم يجي يوم ونمحو ذكراه
والتاء “ترانا” أهل ثار والثار غالي وسبعة أجيال منّا ما تنساه
بقلم ح. الحويطي
[يتبع]اقرأ أيضًا: مشروع نيوم وغياب ولي العهد عن واقع الشعب السعودي