في 28 ديسمبر 2024، نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” تقريرًا صادمًا فضح الأوضاع المأساوية في موقع بناء مشروع نيوم، المشروع الذي روّج له محمد بن سلمان على أنه أيقونة التقدم والتطور في المملكة العربية السعودية. لكن خلف هذه الصورة البراقة، تكشف الحقائق عن معاناة إنسانية وإهدار للأرواح والكرامة في صحراء تغرق في العنف والانتهاكات القمعية. التقرير الذي سلط الضوء على حالات اغتصاب جماعي، انتحار، وفيات مأساوية يعكس الوجه الحقيقي لمشروع يعتمد على سحق العمال وحقوقهم باسم الطموحات الوهمية.
وُعد العالم بأن نيوم ستكون مدينة المستقبل، حيث يعيش الإنسان في رفاهية لا مثيل لها، ولكن هذا الحلم تحوّل إلى كابوس يومي لأكثر من 100,000 عامل تم جلبهم من شتى بقاع الأرض ليصبحوا ضحايا لنظام قمعي يُدير المشروع وكأنه قلعة عسكرية. تقارير متعددة كشفت أن العمال يعانون من ظروف معيشية بائسة، حيث يسكنون في مجمعات سكنية مؤقتة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة. وفي مواجهة هذه المعاناة، اندلعت احتجاجات غاضبة بسبب سوء جودة الطعام ونقص الرعاية الصحية، لكن الرد الرسمي لم يكن سوى الصمت المطبق.
“مدينة بلا رحمة”: الموت في طرقات نيوم
تعد الحوادث المرورية في موقع نيوم مثالًا صارخًا على غياب أدنى معايير السلامة. وفقًا لتقرير “وول ستريت جورنال”، لقي مستشار من شركة ماكنزي مصرعه في حادث تصادم بعد تجاهل الإدارة التحذيرات بشأن خطورة القيادة في المناطق غير المجهزة. الحادث لم يكن معزولًا، ففي نوفمبر 2024 وحده، تم تسجيل خمس وفيات في أسبوع واحد بسبب الإهمال وغياب خطط الطوارئ والإسعاف.
التقرير كشف عن أن بعض مواقع البناء تحوّلت إلى أماكن للعنف والفوضى، حيث سُجلت حالات اغتصاب جماعي وانتحار في بيئة عمل ملوثة بالاضطهاد واليأس. إلى جانب ذلك، تنتشر جرائم أخرى مرتبطة بتداول المخدرات والعنف الجسدي. ورغم هذه الكوارث الإنسانية، تستمر السلطات في التعتيم على هذه الانتهاكات وتجنب الحديث عنها، وكأن حياة العمال بلا قيمة.
أزمة القيادة واستقالات مفاجئة
لم تقتصر الأزمات على العمالة فحسب، بل طالت حتى الإدارة العليا للمشروع، حيث شهد نوفمبر 2024 استقالة ناظمي النصر، الرئيس التنفيذي للمشروع، في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات. فبينما كانت الدعاية الرسمية تتحدث عن “التزام تام بتحقيق رؤية محمد بن سلمان”، كان المشروع يعاني داخليًا من خلافات متصاعدة حول التمويل والإدارة. هذه الاستقالات المفاجئة تعكس فشلًا إداريًا واضحًا، خاصة في ظل الهدر المالي الضخم وعدم وجود رؤية واقعية تدير المشروع بكفاءة.
أي صوت يحاول كشف هذه الكوارث يُقابل بقبضة من حديد. اعتقالات واسعة طالت بعض العمال الذين حاولوا التحدث عن معاناتهم، وأي محاولات توثيق لما يجري في مواقع البناء يتم التعامل معها باعتبارها “خيانة”. نظام محمد بن سلمان لا يسمح بأي نقد، حتى لو كان الهدف منه تحسين ظروف العمل وحماية الأرواح. هذا النهج القمعي يعكس هشاشة النظام، الذي يخشى أي صوت قد يكشف عن انهيار وهم “مدينة الأحلام”.
محمد بن سلمان يواصل إنفاق المليارات على حملات الترويج لمشروع نيوم في الخارج، بينما يُترك العمال في الداخل ليواجهوا الموت والإذلال. الاستثمار في الصورة العالمية كان دائمًا أولوية بالنسبة للنظام، حتى لو جاء على حساب استقرار داخلي مهدد بالانفجار. نيوم التي كان من المفترض أن تكون نموذجًا للاستدامة أصبحت رمزًا للسفه الاقتصادي، حيث تُهدر الثروات على مشروع ضخم بلا رؤية إنسانية أو اجتماعية.
المأساة تتكرر وسط صمت المجتمع الدولي
رغم كل هذه التقارير الموثقة عن الانتهاكات، لا يزال المجتمع الدولي صامتًا إلى حد كبير. الشركات الاستشارية الكبرى، مثل ماكنزي، لم تتخذ مواقف واضحة رغم أن أحد مستشاريها كان ضحية لهذه الأوضاع. هذا الصمت الدولي يعطي ضوءًا أخضر لاستمرار القمع، ويُظهر أن المصالح الاقتصادية تتفوق على حقوق الإنسان في كثير من الأحيان.
مشروع نيوم لم يكن مجرد مشروع بناء ضخم، بل تحول إلى “عدسة مكبرة” كشفت عن فشل النظام بأكمله في تحقيق الحد الأدنى من العدالة والكرامة للعمال. بينما يتم تسليط الضوء على التكنولوجيا المستقبلية والشواطئ الاصطناعية، تُغيب قصص آلاف الأشخاص الذين جاؤوا بحثًا عن فرصة عمل شريفة، فوجدوا أنفسهم أسرى مشروع لا يرى فيهم سوى أدوات لتحقيق أوهام سياسية واقتصادية.