في مشهد يُعيد التأكيد على حقيقة النظام السعودي تحت حكم محمد بن سلمان، أقدمت الأمم المتحدة على حذف انتقادات وجهت للسعودية خلال “منتدى حوكمة الإنترنت” الذي استضافته الرياض في ديسمبر 2024. بدلاً من الاستجابة للانتقادات الدولية بشأن قمع الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان، يُكرّس النظام جهوده لفرض رقابة صارمة حتى داخل الفعاليات التي يُفترض أن تكون منصات حرة للنقاش.
لم يعد الأمر يقتصر على القمع الداخلي، بل باتت الرياض تُمارس نفوذها داخل المنظمات الدولية، مستخدمة الأموال والضغط الدبلوماسي لإسكات الأصوات الناقدة، حتى في ساحات الأمم المتحدة نفسها. فماذا حدث بالضبط؟ ولماذا تسعى السعودية للسيطرة على السردية العالمية بدلاً من إصلاح أوضاعها الداخلية؟
التحكم في السردية الدولية بدلًا من تحسين الواقع
شهد منتدى حوكمة الإنترنت السنوي التاسع عشر، الذي تنظمه الأمم المتحدة، تنظيم ورشة عمل من قبل “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة “القسط” تناولت تأثير اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجرائم الإلكترونية على حرية التعبير، مع تسليط الضوء على السعودية كنموذج للقمع الرقمي.
لينا الهذلول، شقيقة الناشطة المعتقلة سابقًا لجين الهذلول، قدمت خلال الورشة عرضًا وثّقت فيه كيف تستغل السعودية قوانين مكافحة الجرائم الإلكترونية ومكافحة الإرهاب في قمع الناشطين والتضييق على الحريات الرقمية.
لكن بعد انتهاء الجلسة، قامت الأمانة العامة للمنتدى بحذف الفيديو الرسمي للجلسة من موقع الأمم المتحدة، ثم أعادت نشره بعد حذف الأجزاء التي تضمنت انتقادات مباشرة للنظام السعودي، خاصة الإشارات إلى المحاكمات السرية، الاعتقالات التعسفية، وحرمان المعارضين من أبسط حقوقهم الأساسية.
لماذا تحذف الأمم المتحدة انتقادات للسعودية؟
بحسب تقارير موثوقة، فإن السعودية ضغطت مباشرةً على مسؤولي المنتدى وطالبت بحذف الجلسة بالكامل، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل شمل:
• منع الباحثة جوي شيا، التي أدارت الجلسة، من حضور باقي فعاليات المنتدى بناءً على طلب سعودي.
• مصادرة منشورات “منظمة العفو الدولية” التي تضمنت معلومات عن الناشطات المعتقلات، مثل مناهل العتيبي ونيث نهارا.
• تبرير الأمم المتحدة حذف الانتقادات بحجة “مدونة قواعد السلوك” التي تمنع الهجوم على جهات بعينها، وهو ما يُستخدم عمليًا لإخفاء الانتهاكات بدلًا من معالجتها.
هذه الحادثة ليست استثناءً، بل جزءٌ من نمط متكرر يتمثل في استخدام السعودية لنفوذها المالي والدبلوماسي لإسكات الانتقادات داخل المؤسسات الدولية.
المال السعودي يشتري الصمت الأممي
بدلًا من بذل أي جهد حقيقي في تحسين سجلها الحقوقي أو منح مواطنيها هامشًا أوسع من الحرية، تُكرّس السعودية مليارات الدولارات للتحكم في الصورة التي تصدر عنها دوليًا.
منذ سنوات، عمدت المملكة إلى شراء النفوذ داخل الأمم المتحدة من خلال تمويل برامجها المختلفة، وهو ما يُستخدم للضغط على مسؤولي المنظمة بعدم انتقاد الرياض، وعقد صفقات اقتصادية ضخمة مع الدول الغربية مقابل صمتها عن الانتهاكات، مثلما فعلت مع الولايات المتحدة وأوروبا في صفقات سلاح واستثمارات مقابل التغاضي عن ملف حقوق الإنسان.
بالإضافة إلى محاولة استضافة فعاليات عالمية كأداة ترويجية، ثم فرض رقابة صارمة على كل ما يتم تداوله داخلها، وهو ما حدث في منتدى الإنترنت وغيره من المؤتمرات الدولية التي نظمتها المملكة.
الهدف من كل هذه التحركات هو واضح: التحكم فيما يُقال عن النظام السعودي عالميًا، حتى لو كان ذلك عبر قمع الأصوات في المنظمات الأممية نفسها.
القمع في الداخل.. والتكميم في الخارج
إذا كان النظام السعودي يفرض رقابة مشددة داخل المملكة، فمن المتوقع أن يسعى لتوسيع هذه الرقابة إلى المنظمات الدولية. لا تزال الصحافة في السعودية مقيدة، وكل من يجرؤ على انتقاد النظام يواجه عقوبات قاسية، تشمل السجن والتعذيب وحتى التصفية الجسدية، كما حدث مع الصحفي جمال خاشقجي.
اليوم، أصبح واضحًا أن محمد بن سلمان لا يكتفي بالقمع داخل السعودية، بل يريد تعميم هذا النهج عالميًا، من خلال الضغط على الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية لفرض رقابة مماثلة على أي انتقادات موجهة له.
محو الانتقادات المنشورة لن يمحو الحقيقة
مهما حاول النظام السعودي إسكات الأصوات الناقدة، فإن الواقع لا يمكن تزويره إلى الأبد. القمع السعودي أصبح موثقًا في تقارير الأمم المتحدة ذاتها، وتقارير المنظمات الحقوقية، واعترافات الناشطين الذين فروا من المملكة بحثًا عن الحرية.
حذف الأمم المتحدة لانتقادات موجهة للسعودية خلال مؤتمر دولي لا يعني أن هذه الانتهاكات غير موجودة، بل يُظهر كيف أصبحت الرياض تُعامل المنظمة الأممية كأداة ترويجية بدلاً من كونها منصة للنقاش الحر.
لكن مهما دفع النظام السعودي من أموال، فإن أصوات الضحايا ستظل أعلى من كل محاولات القمع والتكميم، وسيظل الرأي العام العالمي مدركًا لحقيقة النظام السعودي، حتى وإن حاول محمد بن سلمان شراء الصمت الدولي مؤقتًا.