في خطوة جديدة للترويج لقدرة السعودية على جذب الاستثمارات الأجنبية، أعلنت المملكة عن افتتاح أول مكتب لمبادرة “استثمر في السعودية” في ميامي، وذلك خلال مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار. الإعلان، الذي قد يبدو للبعض مؤشرًا على انفتاح اقتصادي، يثير في الواقع تساؤلات خطيرة حول حقيقة الوضع الاقتصادي السعودي، ومدى مصداقية هذه المبادرات التي تروج للنظام كوجهة استثمارية عالمية، في الوقت الذي يشهد فيه الاقتصاد الداخلي اضطرابات مستمرة.
فهل يمثل هذا التوسع الخارجي إستراتيجية اقتصادية حقيقية، أم أنه مجرد ستار يغطي أزمة مالية مستمرة؟
هل الاستثمار في السعودية آمن أصلًا؟
منذ إطلاق “رؤية 2030”، يحاول النظام السعودي إقناع العالم بأن المملكة تتحول إلى مركز عالمي للاستثمارات، لكن الأرقام والحقائق تكشف واقعًا مختلفًا تمامًا. فبدلًا من خلق بيئة أعمال مستقرة تجذب الاستثمارات إلى الداخل، نشهد نزوحًا كبيرًا لرأس المال السعودي نحو الخارج، حيث تفضل الشركات الكبرى الاستثمار في الأسواق الأجنبية مثل الكويت والبحرين والإمارات، على التوسع داخل المملكة.
مثال صارخ على ذلك هو شركة أكوا باور، التي أعلنت مؤخرًا عن استحواذها على أصول خارج السعودية بقيمة 2.6 مليار ريال سعودي، وهو ما يعكس مخاوف المستثمرين من بيئة الأعمال المحلية.
فإذا كانت الشركات السعودية نفسها تبحث عن ملاذ آمن خارج المملكة، فكيف يمكن إقناع المستثمر الأجنبي بالمخاطرة بضخ أمواله في اقتصاد يعاني من عدم استقرار مالي وقانوني؟
“مستقبل الاستثمار” أم منتدى للتسويق؟
يتم افتتاح المكتب الاستثماري السعودي في ميامي خلال مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار، وهو الحدث السنوي الذي يتم تنظيمه في الرياض لاستعراض “نجاحات” النظام السعودي اقتصاديًا. لكن على أرض الواقع، تحول هذا المؤتمر إلى منصة دعاية ضخمة، مليئة بالإعلانات والصفقات المليارية التي لا تتحقق فعليًا.
على مدار السنوات الماضية، تم الإعلان عن استثمارات بمليارات الدولارات خلال المؤتمر، لكن نسبة كبيرة من هذه الاستثمارات لم تدخل حيز التنفيذ، مما يعكس عدم ثقة المستثمرين بالوعود التي يطلقها النظام السعودي.
يقول الخبير الاقتصادي مارك دوبسون:
“مؤتمر مستقبل الاستثمار أصبح أشبه بمهرجان للعلاقات العامة أكثر من كونه منصة فعلية لعقد الصفقات. البيئة الاستثمارية في السعودية ما زالت غير مستقرة، ولا يمكن جذب المستثمرين الأجانب فقط من خلال الحملات الترويجية.”
لماذا تهرب الاستثمارات من السعودية؟
رغم الأموال الضخمة التي يتم إنفاقها على الترويج للاستثمارات الأجنبية، يواجه الاقتصاد السعودي أزمات خطيرة تمنع تحول المملكة إلى مركز استثماري حقيقي، وأبرزها:
✔ عدم استقرار البيئة التشريعية: النظام السعودي يقوم بتغيير القوانين بشكل مستمر دون سابق إنذار، مما يجعل المستثمرين غير قادرين على التنبؤ بمستقبل استثماراتهم.
✔ ارتفاع الضرائب والرسوم: أدت سياسات التقشف إلى رفع الضرائب على الشركات، وزيادة تكاليف التشغيل، مما جعل السوق السعودي أقل جاذبية حتى للمستثمرين المحليين.
✔ غياب الشفافية: تعتبر المملكة واحدة من أكثر الدول غموضًا في إدارتها للاقتصاد، حيث لا توجد بيانات واضحة عن أداء مشاريع رؤية 2030، مما يزيد من مخاوف المستثمرين الدوليين.
✔ الأزمات السياسية والحقوقية: تُشكل قضايا حقوق الإنسان والقمع السياسي عامل طرد رئيسي للاستثمارات الغربية، حيث تواجه المملكة انتقادات دولية مستمرة بشأن انتهاكاتها المتكررة، مما يدفع الشركات العالمية إلى الابتعاد عن السوق السعودي خوفًا من الارتباط بنظام قمعي.
ميامي.. استثمار حقيقي أم حملة علاقات عامة؟
قرار افتتاح مكتب “استثمر في السعودية” في ميامي يثير تساؤلات حول الهدف الحقيقي منه. فهل تسعى السعودية إلى جذب المستثمرين الأميركيين، أم أن هذه الخطوة مجرد مناورة إعلامية لتحسين صورتها أمام العالم؟
من الناحية الاقتصادية، ميامي مركز مالي عالمي رئيسي، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن المستثمرين الأميركيين سيتدفقون إلى السوق السعودي بمجرد افتتاح مكتب هناك. فالقرارات الاستثمارية تعتمد على الاستقرار والشفافية والمصداقية، وهي عناصر تفتقدها المملكة بشدة.
يقول المحلل المالي جون بيترسون:
“يمكن للسعودية أن تفتح عشرات المكاتب الاستثمارية حول العالم، لكن هذا لن يغير حقيقة أن المستثمرين يحتاجون إلى بيئة أعمال مستقرة داخل المملكة قبل أن يفكروا في ضخ أموالهم هناك.”
الحقيقة التي يحاول النظام إخفاءها
بينما يحاول النظام السعودي تسويق نجاحاته الوهمية من خلال مبادرات مثل “استثمر في السعودية”، تكشف الحقائق عن واقع اقتصادي متعثر، وبيئة أعمال غير مستقرة، واستثمارات خاسرة.
✔ 45 مليار دولار ضُخّت في “صندوق رؤية سوفت بنك”، وانتهى الصندوق إلى تسجيل خسائر ضخمة بدلًا من تحقيق العوائد الموعودة.
✔ مشروع نيوم، الذي تم الترويج له كأكبر مشروع اقتصادي في العالم، يواجه الآن صعوبات مالية وإدارية هائلة.
✔ ارتفاع الديون السعودية بسبب المشاريع الضخمة غير المجدية اقتصاديًا.
إذا كانت الاقتصادات القوية تعتمد على الاستقرار والإصلاحات الفعلية، فلماذا يواصل النظام السعودي إنفاق المليارات على الدعاية بدلًا من معالجة أزماته الداخلية؟
هل نحن أمام اقتصاد قوي أم سراب إعلامي؟
الحقيقة الواضحة هي أن السعودية لا تزال تحاول إخفاء أزماتها المالية عبر مشاريع دعائية، في الوقت الذي تزداد فيه معدلات الدين العام، وتواصل الشركات الكبرى الهروب إلى الأسواق الخارجية بحثًا عن استقرار مفقود في الداخل.
افتتاح مكتب “استثمر في السعودية” في ميامي لن يغير شيئًا من واقع الاقتصاد السعودي، ولن يجعل المملكة وجهة استثمارية جاذبة طالما أن الأسس الاقتصادية الحقيقية لا تزال مضطربة.
ويبقى السؤال: متى يتوقف النظام عن إنفاق المليارات على الدعاية الفارغة، ويبدأ بإصلاح الاقتصاد من الداخل؟