في الوقت الذي تعاني فيه المملكة من أزمات اقتصادية متصاعدة، ارتفاع معدلات البطالة، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، اختارت السلطات أن تُوَجِّه الأضواء نحو استعراضات احتفالية، لتوهم الشعب والعالم بأن هناك إنجازات تُحقق. آخر هذه العروض كان تسجيل رقم قياسي عالمي لأكبر “رقصة عرضة” سعودية في موسوعة غينيس، بمشاركة 633 فردًا، في مشهد يبدو أقرب إلى الهروب من الواقع المرير عبر المظاهر الزائفة.
أرقام قياسية.. أم تضليل ممنهج؟
حين تعلن الهيئة الملكية لمدينة الرياض بالتعاون مع إمارة الرياض عن تحقيق إنجاز عالمي عبر أكبر عرضة سعودية، لا يمكن تجاهل السؤال الأهم: هل هذا ما تحتاجه المملكة الآن؟
في الوقت الذي تعاني فيه المشاريع الكبرى مثل نيوم وذا لاين ومشروع البحر الأحمر من صعوبات مالية وتأجيلات متكررة، وتستمر الحكومة في بيع أصول الدولة، ورفع الضرائب لسد العجز المالي، يتم إلهاء الشعب بمهرجانات استعراضية، تُسجل في موسوعة “غينيس” دون أي قيمة حقيقية للاقتصاد أو حياة المواطن.
ومع تراجع الإيرادات غير النفطية وزيادة الديون، باتت المملكة بحاجة ماسة إلى إلهاء الشعب عن الأوضاع الاقتصادية المتردية. تحقيق رقم قياسي في “العرضة السعودية” يبدو وكأنه محاولة لصرف الانتباه عن إخفاقات رؤية 2030، والتي لم تحقق حتى الآن أي من وعودها الكبرى.
تسجيل مثل هذه الأرقام في موسوعة “غينيس” يستخدم كأداة لإيهام الخارج بأن السعودية تشهد تقدمًا ثقافيًا واجتماعيًا، بينما الحقيقة هي أنهاتسجّل أيضًا واحدة من أدنى مراتب حرية التعبير في العالم، حيث أصبحت البلاد سجنًا مفتوحًا لكل من يجرؤ على إبداء رأي مخالف. فبينما تُقام أكبر عرضة سعودية في الرياض وسط أهازيج الولاء، يقبع المئات من النشطاء والصحفيين والمفكرين خلف القضبان بسبب تغريدة أو تعليق ناقد.
الاحتفال بالهوية والتراث لا يمكن أن يكون بديلًا عن حرية الرأي والإصلاح السياسي، كما لا يمكن إقناع العالم بأن المملكة تتطور بينما المعتقلات ممتلئة، والقمع مستمر، وأي انتقاد يُواجه بالسجن والتعذيب. أي قيمة للاحتفالات عندما يكون المواطن غير قادر على التعبير عن رأيه بحرية
تبرير الإنفاق على الفعاليات الترفيهية:
في حين يتم خفض الميزانيات المخصصة للتعليم والصحة، يتم توجيه مليارات الريالات لتمويل احتفالات واستعراضات رياضية وثقافية باهظة التكاليف، تحت ذريعة تعزيز السياحة والانفتاح، دون أن يكون لها أي تأثير ملموس على الاقتصاد الفعلي.
السعودية في أزمة.. لكن الإعلام يريدك أن تحتفل!
بينما يتم التفاخر بتحقيق أرقام قياسية زائفة، تواجه المملكة مشاكل حقيقية تتطلب حلولًا جذرية، وليس مهرجانات علاقات عامة، ومنها:
ارتفاع الدين العام: بلغت ديون المملكة 1.1 تريليون ريال سعودي بنهاية 2023، وهي مرشحة للارتفاع مع استمرار الإنفاق غير المبرر.
تراجع الاستثمارات الأجنبية: وفقًا لبيانات رسمية، انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 60% مقارنة بالأعوام السابقة، نتيجة عدم الاستقرار القانوني والاقتصادي.
انخفاض مستوى المعيشة: زيادة الضرائب ورفع أسعار الوقود والكهرباء تضغط على المواطن العادي، في الوقت الذي يتم فيه تمويل مشاريع ترفيهية ضخمة بلا عوائد حقيقية.
هل هذه “الرؤية” التي وُعد بها السعوديون؟
بدلًا من تحقيق نهضة اقتصادية حقيقية، أصبح التركيز على تسجيل الأرقام القياسية في العرضة، أطول مأدبة، وأكبر احتفال بالألعاب النارية! هل هذه هي “رؤية 2030” التي وُعد بها السعوديون؟ أم أننا نشهد تحولًا ممنهجًا نحو تضليل الشعب، والترويج لإنجازات بلا قيمة؟
في النهاية، لا أحد ينكر أهمية الحفاظ على التراث، لكن حين يصبح تسجيل رقم قياسي في موسوعة “غينيس” هو الإنجاز الذي تتفاخر به الدولة، بينما يعاني المواطن من أزمة معيشية متفاقمة، فإن ذلك يعكس عمق الأزمة، لا عظمة الإنجاز.