“انهيار أسعار النفط يكشف هشاشة قطاع الاستشارات في السعودية”

“انهيار أسعار النفط يكشف هشاشة قطاع الاستشارات في السعودية”

لسنوات، قدم النظام السعودي قطاع الاستشارات باعتباره أحد أركان التنمية الاقتصادية، وروّج لنموه المتسارع كدليل على نجاح “رؤية 2030”. لكن الحقيقة مختلفة تمامًا. فقطاع الاستشارات في السعودية لم يكن سوى فقاعة تضخمت بفضل الإنفاق الحكومي الهائل، وليس بسبب طلب حقيقي من قطاع خاص قوي أو مشاريع ذات جدوى اقتصادية. اليوم، ومع انخفاض أسعار النفط، تتهاوى هذه الفقاعة بسرعة، مما يكشف أن هذا القطاع لم يكن أكثر من امتدادٍ لسياسات مالية غير مستدامة تعتمد على النفط كمصدر تمويل رئيسي.

انخفاض أسعار النفط لم يضرب فقط إيرادات الحكومة، بل كشف كذلك هشاشة الاقتصاد السعودي الذي لم يتمكن حتى الآن من الفكاك من أسر العوائد النفطية. وفي ظل هذه الظروف، تتجه الحكومة إلى تقليص الإنفاق على الاستشارات، مما جعل قطاعًا كان يُروج له كرمز “للحداثة الاقتصادية”، يعاني اليوم من ركود واضح، وتسريحات جماعية، وانخفاض حاد في الأرباح. فكيف يمكن لبلد يدّعي تنويع اقتصاده أن يواجه هذه الأزمة كلما تراجعت أسعار النفط؟ وأين هي الاستثمارات غير النفطية التي كان يُفترض أن تحلّ محل الاعتماد المفرط على الذهب الأسود؟

أزمة النفط تفضح ضعف النموذج السعودي للاستشارات

عند الحديث عن ازدهار قطاع الاستشارات في السعودية خلال السنوات الماضية، لا يمكن تجاهل أن هذا النمو كان قائمًا على الإنفاق الحكومي الضخم. فعندما سجلت أسعار النفط ارتفاعًا خلال الفترة بين 2021 و2023، شهد القطاع ازدهارًا ملحوظًا. لكن مع انخفاض أسعار النفط في 2024، بدأت الحكومة في إعادة تقييم إنفاقها على المشاريع الكبرى، لتجد نفسها مضطرة لتقليص التعاقدات مع شركات الاستشارات الأجنبية.

القطاع لم يكن قائمًا على الطلب الحقيقي، بل على إنفاق حكومي بلا حساب، وعندما بدأ النفط بالتراجع، أصبح واضحًا أن هذا الازدهار لم يكن أكثر من خدعة

حظر العقود الجديدة: الحكومة تدرك حجم الإنفاق المبالغ فيه

في خطوة تعكس الإحباط الحكومي من النتائج غير الملموسة التي قدمتها شركات الاستشارات، فرض صندوق الاستثمارات العامة السعودي حظرًا لمدة عام على منح شركة “بي دبليو سي” (PwC) أي أعمال استشارية جديدة. هذه الخطوة تكشف أن الحكومة بدأت تدرك حجم الأموال الطائلة التي تم إنفاقها على تقارير واستراتيجيات لم تحقق شيئًا على أرض الواقع.

“السعودية أنفقت مليارات الدولارات على شركات استشارات أجنبية دون أن تحصل على عائد حقيقي. الحظر المفروض على PwC هو مجرد بداية لإعادة تقييم شاملة للقطاع”

تسريحات الموظفين ونقل المكاتب: علامات انهيار القطاع

مع تراجع العقود الحكومية، بدأت شركات الاستشارات الكبرى بتسريح الموظفين ونقل فرق عملها إلى أسواق أكثر استقرارًا. شركات مثل بوسطن كونسلتينغ جروب (BCG) ورولاند بيرغر اضطرت إلى إعادة هيكلة عملياتها في السعودية، حيث تم تسريح العشرات من الموظفين أو نقلهم إلى قطر ودبي.

في المقابل، يحاول بعض المستشارين الأجانب تجنب البقاء في السعودية بسبب عدم اليقين بشأن مستقبل السوق، حيث أكد أحد المحللين في شركة استشارية كبرى أنه “من الصعب الاعتماد على سوق لا يمتلك أسسًا قوية، ويعتمد بالكامل على قرار سياسي بزيادة أو تقليص الإنفاق الحكومي”.

غياب القطاع الخاص: لماذا لم يستمر النمو؟

في الاقتصادات المستقرة، تكون خدمات الاستشارات مدفوعة باحتياجات القطاع الخاص، وليس بالإنفاق الحكومي. لكن في السعودية، القطاع الخاص لا يزال ضعيفًا، وغير قادر على خلق طلب مستقل على هذه الخدمات. هذا ما يجعل أي انخفاض في أسعار النفط يؤثر فورًا على حجم العقود الاستشارية، لأن الحكومة هي العميل الوحيد الذي يضخ الأموال في هذا القطاع.

أين التنويع الاقتصادي؟

يتساءل المراقبون: كيف يمكن للسعودية أن تستمر في الحديث عن تنويع الاقتصاد، بينما لا تزال تعاني من هذه الأزمات مع كل تراجع في أسعار النفط؟ فلو كانت هناك مصادر دخل حقيقية خارج القطاع النفطي، لما تأثر قطاع الاستشارات بهذا الشكل العنيف.

تواجه السعودية تحديات كبيرة في سعيها لتنويع اقتصادها وتقليل الاعتماد على النفط. يتطلب ذلك إصلاحات هيكلية جذرية وتطوير قطاعات جديدة قادرة على تحقيق إيرادات مستدامة. ومع ذلك، فإن التباطؤ الحالي في قطاع الاستشارات يعكس العقبات التي قد تواجهها المملكة في هذا المسار، مما يستدعي تبني سياسات اقتصادية أكثر شمولية وفعالية.

 هل يستفيق النظام قبل الانهيار القادم؟

تباطؤ قطاع الاستشارات في السعودية ليس سوى عرض من أعراض مشكلة أعمق بكثير: وهي أن الاقتصاد السعودي لا يزال يعتمد على النفط، ورغم كل الدعاية حول “رؤية 2030″، لا توجد مصادر دخل حقيقية يمكن أن تعوض أي انخفاض في أسعار الخام.

في النهاية، إذا لم تستطع السعودية خلق بيئة اقتصادية أكثر استدامة، فإن كل القطاعات، وليس فقط الاستشارات، ستظل رهينة لتقلبات أسواق الطاقة. وعندما يأتي الانهيار القادم، لن يكون هناك “مستشارون” لإنقاذ النظام من فشل سياساته الاقتصادية.

شارك المقالFacebookXEmailWhatsAppLinkedIn
اترك تعليقاً