بينما يواصل النظام السعودي إغراق السوق بالإصدارات المالية والاكتتابات، بزعم “تنويع مصادر التمويل”، تكشف الأرقام عن واقع اقتصادي هشّ يزداد اعتمادًا على أدوات الدين والخصخصة، لا على الإنتاج الحقيقي أو التنمية المستدامة. إصدار صكوك حكومية بقيمة 9.435 مليارات ريال منذ بداية 2025، وطرح شركات حكومية وأندية رياضية للاكتتاب، لا يُظهر قوة مالية كما يحاول إعلام النظام أن يصوّر، بل يعكس أزمة تمويل عميقة تعاني منها خزينة الدولة التي استنزفتها مشاريع استعراضية كـ”نيوم” و”ذا لاين”، وسط تضخم عجز الميزانية وارتفاع الدين العام بشكل مقلق.
قائمة المحتوى
الصكوك الحكومية: تمويل أم استدانة مقنّعة؟
تُروّج وزارة المالية السعودية لهذه الإصدارات على أنها أدوات ذكية لتنويع مصادر التمويل وتحقيق الاستدامة المالية. لكن الحقيقة أن إصدار صكوك بقيمة تجاوزت 9.4 مليارات ريال في 3 أشهر فقط، يعني أن الدولة تموّل عجزها المتزايد عبر الاستدانة لا عبر الإيرادات غير النفطية كما تزعم “رؤية 2030”.
وفقًا لتقارير صندوق النقد الدولي، ارتفع الدين العام السعودي خلال السنوات الخمس الماضية بأكثر من 180%، ليصل إلى نحو 1.1 تريليون ريال سعودي مع نهاية 2024، وهو ما يدحض بشكل واضح فكرة “الاقتصاد القوي” الذي تروج له الجهات الرسمية.
هذه الصكوك، وإن كانت تُصاغ بلغة استثمارية، تظل ديونًا في جوهرها، تُحمّل الخزينة التزامات إضافية، وتفتح الباب لمزيد من الاعتماد على التمويل الخارجي والداخلي، بدلًا من تحسين إدارة الموارد أو ترشيد الإنفاق على المشاريع ذات العائد المنخفض.
الطرح العام للأندية: رياضة تُباع باسم الرؤية
في خضم هذا التوسع في أدوات التمويل، أعلنت “شركة الأندية الرياضية” عن طرح 30% من رأسمالها للاكتتاب العام، لتكون واحدة من أربع شركات طرحت أسهمها منذ بداية عام 2025. وبينما يُروّج لهذا التحول على أنه جزء من خصخصة “مبنية على الكفاءة”، فإن الحقيقة أن ما يجري هو بيع أصول عامة وجماهيرية لتغطية عجز مالي متراكم، وتوفير سيولة عاجلة، وليس تطويرًا مستدامًا لقطاع الرياضة.
“شركة الأندية الرياضية” التي تضم أندية ذات شعبية كبرى، لا تُطرح اليوم لتحقيق أرباح حقيقية أو خلق بيئة تنافسية، بل تُباع لجلب أموال من المستثمرين المحليين والأجانب، مع استمرار التدخل الحكومي في إدارتها. إنها رياضة تُحوّل إلى منتج مالي، وتُستخدم كأداة أخرى لتبييض الفشل الاقتصادي الذي تعاني منه “رؤية بن سلمان”.
رؤية 2030: حلم يتحول إلى سلسلة من الطروحات والاستدانة
حين أُطلقت “رؤية 2030” قبل سنوات، بشّرت بتحول اقتصادي شامل، يقوم على تقليل الاعتماد على النفط وتنمية القطاع الخاص. لكن ما نشهده اليوم هو اقتصاد قائم على الخصخصة السريعة، وبيع الأصول، والاقتراض المتكرر، مع غياب الإصلاحات الحقيقية في البنية الاقتصادية أو التشريعية.
الطروحات الأولية أصبحت الوسيلة المفضلة للنظام لتغطية فجوة السيولة، حيث تم طرح شركات استراتيجية في قطاعات مثل الصحة والطاقة والرياضة، في وقت لا يزال فيه القطاع الخاص ضعيفًا، والبيئة الاستثمارية محفوفة بالمخاطر، في ظل غياب الشفافية، وارتفاع مستوى القمع السياسي، وملاحقة المعارضين الاقتصاديين والحقوقيين على حد سواء.
أين تذهب الأموال؟ مشاريع استعراضية ونفقات غير منتجة
أحد أهم الأسئلة التي يتجنب الإعلام الرسمي طرحها: أين تذهب كل هذه الأموال التي يتم جمعها عبر الصكوك والاكتتابات؟ الإجابة تُكشف بسهولة عند النظر في حجم الإنفاق على مشاريع كـ”نيوم” و”ذا لاين” و”قمة الرياض للذكاء الاصطناعي”، التي تكلّف عشرات المليارات دون مردود اقتصادي ملموس حتى الآن.
في المقابل، يعاني المواطن السعودي من ارتفاع الضرائب والرسوم، وتراجع القوة الشرائية، وتجميد رواتب القطاع العام، وتقليص الدعم الاجتماعي. الاقتصاد لا يُدار لصالح المواطن، بل لصالح النخب القريبة من النظام، ولخدمة طموحات سياسية وشخصية لولي العهد، الذي يسعى لتحويل المملكة إلى منصة استعراض عالمية، ولو على حساب الاستقرار المالي.
الصكوك مقابل السيادة: من يمتلك القرار الاقتصادي؟
مع كل صك يُصدر، وكل سهم يُطرح، تتقلص سيادة القرار الاقتصادي في السعودية لصالح المستثمرين والمؤسسات الدولية. المملكة باتت تعتمد بشكل متزايد على أدوات تمويل مرتبطة بشروط الأسواق العالمية، وهو ما يعني أنها ستخضع لضغوط خارجية إذا أرادت تجديد هذه الصكوك أو إصدار غيرها.
الاقتصاد لم يعد وطنيًا، بل أصبح مرهونًا برضا المستثمرين وحسابات السوق، وهو ما يُفقد الدولة قدرتها على اتخاذ قرارات سيادية حرة في أوقات الأزمات.
ما يُروّج له كتنويع لمصادر التمويل، ليس إلا محاولة يائسة لسد فجوة مالية متزايدة، ناتجة عن مشاريع استعراضية وإنفاق بلا رقابة. الصكوك والاكتتابات ليست أدوات للنهوض، بل مؤشرات على اقتصاد مرهق، عاجز عن توليد الثروة، ومُدمن على الديون.
في ظل هذه السياسة المالية، المواطن يدفع الثمن، والسيادة تُفقد، والنظام السعودي يواصل الرهان على المظاهر بدل البناء الحقيقي. “رؤية 2030” لم تُحقق التنوع، بل كرّست التبعية.. وتحوّلت إلى واجهة براقة تخفي خلفها اقتصادًا على حافة الخطر.