في الوقت الذي يُفترض فيه أن تتجه المملكة العربية السعودية إلى تعزيز اقتصادها المحلي، وتوفير فرص عمل حقيقية للمواطنين، تختار شركة أرامكو ضخ استثمارات ضخمة في الخارج، آخرها ما كشفته تقارير دولية حول مفاوضاتها للاستثمار في مصفاتين نفطيتين في الهند. خطوة تروّج لها وسائل الإعلام المحلية كنجاح اقتصادي واستراتيجي، لكنها في الواقع تعكس خللًا كبيرًا في ترتيب الأولويات، وتناقضًا صارخًا بين التصريحات الرنانة والواقع الاقتصادي المتآكل.
تقول الحكومة إن رؤية 2030 تهدف إلى تنويع الاقتصاد، وتقليل الاعتماد على النفط، لكن شركة النفط الوطنية الكبرى تواصل ربط مصيرها بمصافٍ أجنبية لا تخدم إلا الأسواق الخارجية، تاركة خلفها اقتصادًا يعاني من البطالة، والانكماش، وهروب المستثمرين.
قائمة المحتوى
الصفقة الهندية: إنقاذ سمعة أم توسّع مدروس؟
تخوض أرامكو حاليًا مفاوضات مع شركتي “بهارات بتروليوم” و”أويل أند ناتشورال غاز” الهنديتين للاستثمار في مصفاتين ضخمتين في ولايتي أندرا براديش وغوجارات. الصفقة التي لم يُعلن عن قيمتها حتى الآن، يُتوقع أن تكون بمليارات الدولارات، وتُسوّق كتحرك استراتيجي لضمان منافذ دائمة لصادرات النفط السعودي في آسيا، خصوصًا بعد تقلص الطلب الأوروبي.
لكن ما لا تقوله البيانات الرسمية أن هذا التوسع يأتي في ظل انخفاض أرباح أرامكو بنسبة 25% عام 2023، حيث تراجعت من 604 مليار ريال إلى 454 مليار فقط، وسط تذبذب أسعار النفط، وتباطؤ اقتصادي عالمي، وتراجع في توزيعات الأرباح الحكومية.
أحد المحللين في مركز “الطاقة والاقتصاد العالمي” قال لموقع “الطاقة نت”:
“أرامكو تسعى لتعويض ضعف العوائد بتوسيع الحصة السوقية في آسيا، لكن هذا لا يغير واقعًا داخليًا مقلقًا، حيث لا نرى أثرًا لهذا الإنفاق في الاقتصاد المحلي أو في توظيف السعوديين.”
التناقض الفجّ بين الخطاب الاقتصادي والممارسة
في كل مؤتمر اقتصادي سعودي، لا يخلو الحديث عن “التوطين”، و”الاستثمار في الداخل”، و”بناء اقتصاد مستدام”. ومع ذلك، تُظهر تحركات أرامكو واقعًا مختلفًا:
- ضخ استثمارات في الخارج دون شفافية حول العائد المتوقع
- انسحاب من مشاريع طاقة متجددة داخلية
- خفض خطط التوسع في الإنتاج المحلي
ففي بداية 2024، أعلنت أرامكو تجميد خطة رفع الطاقة الإنتاجية إلى 13 مليون برميل يوميًا، وهو ما فُسِّر حينها على أنه “تعديل استراتيجي”، لكنه في الواقع يعكس عجزًا عن تمويل مشاريع الإنتاج المكلفة، وفق ما أكده محللون لـ”بلومبيرغ”، الذين أشاروا إلى أن “الضغط على ميزانية الشركة دفعها إلى إعادة ترتيب أولوياتها بشكل اضطراري، لا استراتيجي”.
أين المواطن من كل هذه المليارات؟
بينما تتحدث أرامكو عن تنويع استثماراتها، يعاني الاقتصاد السعودي من أزمات هيكلية:
معدلات بطالة الشباب تجاوزت 16%
عجز الموازنة قفز إلى 82 مليار ريال في 2024
تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بسبب المخاوف من المناخ السياسي والأمني
فأين تذهب هذه المليارات؟ ولماذا لا تُضخ في بناء مصافي داخلية، ومشاريع بتروكيماويات توفر وظائف حقيقية؟
لماذا يُترك السوق المحلي للركود، بينما يُضخ المال في مصانع تعمل لصالح الاقتصاد الهندي، وتوظف الآلاف من العمال الهنود؟!
انهيار الثقة في الشفافية والاستدامة
ليس سرًا أن أرامكو تعاني من أزمة ثقة دولية منذ طرحها في السوق المالية. فرغم أنها أكبر شركة نفط في العالم من حيث القيمة، إلا أن أسهمها لم تحقق النمو المتوقع، بل تراجعت قيمتها في فترات كثيرة بسبب غياب الشفافية، وتدخّل الدولة المباشر في قراراتها.
تقرير لموقع “ماركت ووتش” الأمريكي ذكر:
“أرامكو تُدار كذراع مالية للحكومة السعودية، وليس كشركة مستقلة تجارية. وهذا يجعل المستثمرين الدوليين يترددون، كما يجعل خططها الخارجية أداة لتبييض أداء داخلي باهت.”
النفط يُكرّس للخارج… والمواطن يدفع الثمن
الاستثمار في الخارج ليس خطأ بحد ذاته، لكن حين يتحول إلى سياسة ثابتة تُغفل الداخل، فهو وصفة لكارثة. أرامكو ليست شركة تجارية محايدة، بل هي ذراع اقتصادية لنظام يدّعي الإصلاح والتنمية، بينما يُهدر المليارات في الخارج، ويتجاهل معاناة الناس في الداخل.
كيف تقنع مواطنًا سعوديًا بأن بلده يتجه نحو التقدم، وهو يرى أرامكو تموّل مصافي في الهند، بينما تُجمَّد مشاريع الإسكان، وتُرفع الضرائب، وتُقلّص الإعانات؟
الجواب واضح: لا إصلاح اقتصادي حقيقي دون مساءلة. ولا معنى لأي رؤية طالما أن النفط السعودي لا يُستخدم لتنمية البلاد، بل لتلميع الصورة في الخارج، وشراء نفوذ مؤقت… على حساب استقرار الداخل.