نيوم مدينة الوعود الزائفة: من فانتازيا التنمية إلى وقائع الفساد والدم

نيوم مدينة الوعود الزائفة: من فانتازيا التنمية إلى وقائع الفساد والدم

في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالمملكة العربية السعودية، يبرز مشروع “نيوم” كرمزٍ صارخٍ للهدر المالي والفساد الإداري. هذا المشروع، الذي وُعد بأن يكون نموذجًا للمدينة المستقبلية، تحوّل إلى مستنقعٍ من التلاعب المالي، وانتهاكات حقوق الإنسان، وتهجير السكان الأصليين. تُظهر التقارير الحديثة كيف أُهدرت المليارات في مشروعٍ يبدو أنه وُلد ميتًا، في وقتٍ تحتاج فيه المملكة إلى استثماراتٍ حقيقيةٍ تُسهم في تحسين حياة مواطنيها.​

تكاليف تتجاوز المنطق: حلم الـ500 مليار يتحول إلى 8.8 تريليون دولار

عند إطلاق “نيوم” في 2017، قُدرت تكلفته بنحو 500 مليار دولار. لكن، وفقًا لمصادر متعددة وشهادات داخلية حصلت عليها صحيفة “إل باييس”، بلغت التكاليف المتوقعة حاليًا نحو 8.8 تريليون دولار بحلول 2080، ما يعادل أكثر من 25 ضعف الميزانية السنوية للمملكة.

المشروع الذي صُمم ليكون “رمزًا للحداثة”، يبتلع الآن ميزانية دول، بينما الخدمات الأساسية كالإسكان والصحة والتعليم تتدهور داخل المملكة. كيف تبرر الحكومة هذا التناقض؟ لا إجابة، سوى استمرار الترويج والدعاية.

أنطوني فيفيس: رجل الظل والرسائل السرية

الفضيحة الكبرى التي كشفتها “إل باييس” تتعلق بمستشار إسباني سابق، أنطوني فيفيس، الذي عُيّن مسؤولًا عن أحد المشاريع الرئيسية في نيوم، وهو مشروع “سندالة”. في رسالة بريد إلكتروني داخلية، قال فيفيس بوضوح: “لا يجب أن نذكر التكاليف بشكل استباقي”. كانت تلك إشارة صريحة لتضليل المعلومات حول النفقات.

فيفيس ليس شخصًا عاديًا، بل وجهٌ معروف في قضايا الفساد المالي والسياسي في إسبانيا، وقد طالبت النيابة العامة هناك بسجنه 6 سنوات في ما عُرف بـ”قضية الـ3%”. السؤال: كيف يتم منح مثل هذه الشخصيات مواقع قيادية في أحد أهم مشاريع السعودية؟

تهجير قسري.. ودماء الحويطات على خرائط نيوم

لكي تُبنى “نيوم”، كان لا بد من “إفراغ الأرض”. والضحية هنا كانت قبيلة الحويطات، السكان الأصليون لشمال غرب المملكة. عبد الرحيم الحويطي، أحد أفراد القبيلة، قُتل عام 2020 برصاص قوات الأمن بعد رفضه مغادرة منزله.

لاحقًا، وثّقت منظمات دولية منها “هيومن رايتس ووتش” و”القسط” إعدامات وأحكامًا قاسية ضد عدد من أفراد القبيلة بتهم “الإرهاب”، لا لشيء سوى أنهم رفضوا بيع أرضهم أو الصمت على التهجير. في نيوم، الحلم يُبنى بالخرسانة والدم معًا.

بيئة عمل فاسدة وعنصرية

لم تكن الكارثة محصورة في التكاليف أو التهجير. بل شملت أجواء العمل داخل “نيوم” نفسها. تقارير من موظفين سابقين نقلتها منصات دولية مثل Middle East Eye، تحدّثت عن بيئة عمل سامة يسيطر عليها التنمر والعنصرية. المديرون الأجانب يتمتعون بصلاحيات مطلقة، والسعوديون يُعاملون كموظفين من الدرجة الثانية.

في بلد يُفترض أنه يقود “رؤية وطنية”، يبدو أن النخبة التي تدير المشروع مستوردة، والولاء ليس للكفاءة، بل للمصالح السياسية الخارجية.

أين الاستثمارات الأجنبية؟

رغم أن الحكومة تروج بأن “نيوم” سيجذب العالم، فإن الواقع عكس ذلك. المستثمرون مترددون، خاصة في ظل افتقار المشروع للشفافية، والانتهاكات الحقوقية المرتبطة به. بحسب تقرير حديث لصحيفة “وول ستريت جورنال”، تواجه الحكومة صعوبة في جذب تمويل حقيقي للمشروع.

فشل “نيوم” في تحقيق ثقة المستثمرين لا يعود فقط إلى جدواه الاقتصادية المشكوك فيها، بل إلى سمعة المملكة كدولة لا تحترم الحقوق ولا تضمن استقرار التشريعات.

التبرير الدائم الذي تردده السلطات هو أن المشروع سيعود بعوائد ضخمة على الاقتصاد. لكن، حتى اللحظة، لا توجد أية دلائل واضحة على عوائد أو وظائف حقيقية. ما يُنفق عليه الآن هو تضخيمٌ وهميٌّ لمشاريع عملاقة لا تخدم المواطن، بل تُستخدم لشراء شرعية سياسية داخلية وخارجية.

وبينما تُستنزف أموال الصندوق السيادي في “نيوم” والغولف والمصارعة، يعاني الاقتصاد من أزمة ديون، ويفقد “تاسي” مؤشره المالي نقاطه أسبوعًا بعد أسبوع.

نيوم عندما يصبح الوطن مشروعًا للاستغلال

“نيوم” ليست مجرد مدينة، بل مرآة لمجمل سياسات بن سلمان: تغليف الفشل بالبذخ، واستبدال التنمية الحقيقية بالمشاريع الفارغة. حين تُقتل قبيلة، وتُهدر تريليونات، ويُدار المشروع من قبل رجال متهمين بالفساد، فإننا لا نتحدث عن رؤية، بل عن استغلالٍ للسلطة والموارد، وعن دولة تُبنى على أنقاض العدالة.

مستقبل المملكة لا يصنعه الزجاج الفاخر ولا الطائرات دون طيار، بل يُبنى بالعدالة، والمساءلة، واحترام الإنسان. و”نيوم”، بكل ما تحمله من وعود، باتت أقرب لكابوس لا حلم.

شارك المقالFacebookXEmailWhatsAppLinkedIn
اترك تعليقاً