قمعٌ ممنهج وتجميلٌ انتقائي: كيف يخدع النظام السعودي العالم بملف معتقلي الرأي؟

قمعٌ ممنهج وتجميلٌ انتقائي: كيف يخدع النظام السعودي العالم بملف معتقلي الرأي؟

لا يحتاج النظام السعودي إلى مساحيق لتجميل سجله الحقوقي، فهو يكتفي بإطلاق سراح عدد محدود من معتقلي الرأي كل فترة، لتسويق صورة إصلاحية زائفة أمام العالم. هذا الإفراج الانتقائي لا يعكس أي نية حقيقية في التغيير، بل هو أداة سياسية لتخفيف الضغط الدولي وتهدئة المنظمات الحقوقية، فيما يستمر القمع والاعتقال والانتهاك خلف الكواليس.

خلف كل معتقل حكاية، وخلف كل إفراج قصة غير مكتملة، لكن الأهم هو ما لا يُقال: المئات الذين لا يزالون في الزنازين، القيود التي تُفرض على المُفرج عنهم، وتلك الرسالة التي يُراد ترسيخها بوحشية: “الصمت هو النجاة”. وبينما يُروّج النظام السعودي لتحولات شكلية في ملف حقوق الإنسان، فإن الواقع يشي بكل ما هو عكس ذلك تمامًا.

إفراجات محدودة… مناورات دعائية لا أكثر

شهدت الأشهر الأخيرة ما وصفه النظام السعودي بـ”خطوات إصلاحية”، تمثّلت في الإفراج عن عدد من معتقلي الرأي، من بينهم المدون داوود العلي، والصحفي مالك الأحمد، ورجل الدين محمد الخضيري. ورغم الترحيب المبدئي بهذه الخطوة، فإن المنظمات الحقوقية سرعان ما شكّكت في نوايا النظام خلف هذه القرارات.

بحسب منظمة “القسط” الحقوقية، فإن عدد المفرج عنهم لم يتجاوز بضع عشرات، بينما لا يزال المئات –إن لم يكن الآلاف– في السجون، على خلفية تعبيرهم السلمي عن آرائهم، أو دفاعهم عن حقوق الإنسان، أو حتى انتقادهم لسياسات الدولة عبر تغريدات قديمة.

الوجه الآخر: الاعتقالات مستمرة والتعذيب لا يتوقف

في الوقت ذاته الذي يعلن فيه النظام السعودي عن إفراجات “رمزية”، تستمر حملات الاعتقال، غالبًا بصمتٍ ودون تغطية إعلامية ، بل الأكثر فجاجة أن معتقلي الرأي، لا يحصلون على الرعاية الطبية الكافية، ويُحرمون من زيارة أسرهم أو التواصل مع محاميهم. يُنقل بعضهم بين سجون مختلفة بشكل تعسفي، ويُفرض عليهم الحبس الانفرادي لفترات طويلة، في انتهاك صارخ لأبسط حقوق المعتقلين.

المفرج عنهم لا ينالون الحرية، بل نسخة مشوّهة منها. فمعظمهم يُمنع من السفر، يُحظر عليه الظهور الإعلامي أو التدوين، وتُفرض عليهم رقابة أمنية مستمرة. محمد القحطاني، مثلًا، لا يزال خاضعًا لحظر سفر مدته 10 سنوات بعد خروجه من السجن، رغم أن أسرته تقيم في الخارج.

هذه “الحرية المشروطة” ليست إلا محاولة لتفريغ أي عمل حقوقي أو سياسي من مضمونه، إذ يتحول النشطاء إلى أسرى خارج السجن، تحت تهديد العودة إليه في أي لحظة.

مسرحية الإصلاح وأدوات التجميل

منظمة “هيومن رايتس ووتش” وصفت الإصلاحات التي يُعلن عنها النظام السعودي بأنها “مسرحية سياسية”، تهدف لتحسين صورة محمد بن سلمان أمام الغرب، خصوصًا بعد الفضائح المتراكمة في ملف حقوق الإنسان، من اغتيال جمال خاشقجي، إلى مذبحة الحويطات، وصولًا إلى الاعتقالات العشوائية لنشطاء ومفكرين وصحفيين.

الناشطة الحقوقية فاطمة الحسن، في تصريح لموقع “ميدل إيست مونيتور”، قالت: “الإفراجات المتقطعة لا تُعفي النظام من مسؤوليته المستمرة عن تقويض كل مساحة حرة داخل المجتمع”. وتضيف: “يُراد لنا أن نصفّق كلما خرج شخص من السجن، بينما السجون تزداد اتساعًا وظلامًا”.

ازدواجية المعايير الغربية: المال يُسكت الحقوق

رغم كل هذه الانتهاكات، تستمر الحكومات الغربية في توسيع علاقاتها الاقتصادية مع النظام السعودي، وتمنحه صفقات سلاح بمليارات الدولارات، بينما تكتفي ببضع بيانات باهتة عن “القلق من أوضاع حقوق الإنسان”. فرنسا، بريطانيا، والولايات المتحدة كلها شريكة –بصمتها أو بتواطؤها– في استمرار القمع داخل المملكة.

منظمة “القسط” وثّقت عشرات الحالات التي طُويت ملفاتها فقط لأن أصحابها لا يحظون بتغطية إعلامية، أو دعم من حكوماتهم. ويكفي أن نذكر أن عددًا من المعتقلين الأجانب –من حاملي الجنسيات الأوروبية– لا يزالون محتجزين دون تهم واضحة، وسط تجاهل شبه تام من حكوماتهم.

من المسؤول عن هذا السجل الملطخ؟

المسؤولية المباشرة تقع على عاتق ولي العهد محمد بن سلمان، الذي وضع قبضته الحديدية على مفاصل الدولة، وأعاد تعريف “الإصلاح” ليعني فقط الانفتاح الترفيهي والتقني، بينما الحقوق والحريات تذوب تحت سطوة القمع الأمني.

ما يحدث ليس “تطويرًا للدولة”، بل هندسة سياسية لقمع أي رأي مستقل، وسحق المجتمع المدني قبل أن ينشأ. وبدلًا من فتح المجال أمام التنوع السياسي، يواصل النظام السعودي التعامل مع المواطنين كتهديد يجب مراقبته، لا كشركاء في بناء وطن.

 لا إصلاح مع بقاء السجون مفتوحة

النظام السعودي، رغم ما يُعلنه من خطوات وإفراجات، لا يزال يمارس القمع كسياسة ممنهجة. الإفراج عن بعض المعتقلين ليس بداية إصلاح، بل محاولة مكشوفة لإعادة تدوير صورته أمام العالم. أما الحقيقة، فهي أن آلاف الأصوات لا تزال خلف القضبان، والصمت لا يزال القانون الأول في المملكة.

إن لم يُرافق كل إفراج فتح للمجال العام، وإلغاء لعقوبات السفر، ووقف حقيقي للاعتقال التعسفي، فسيبقى المشهد على ما هو عليه: نظام يُكمّم الأفواه، ويعرض ابتسامة زائفة للعالم.

شارك المقالFacebookXEmailWhatsAppLinkedIn
اترك تعليقاً