النظام السعودي يتحدث كثيرًا عن التقدم الاقتصادي والفرص الاستثمارية، لكن المؤشرات الحقيقية في الأسواق المالية تروي قصة مختلفة تمامًا. ففي آخر جلسات الأسبوع، سجّلت البورصة السعودية تراجعًا ملحوظًا في أسهمها الرئيسية، لتُضاف هذه الخسائر إلى سلسلة من الهزات التي تضرب السوق منذ أشهر، دون أي مواجهة حقيقية أو إصلاح جذري من قبل السلطات. فهل لا يزال النظام يُراهن على الثقة بينما السوق يتهاوى تحت قدميه؟
أرقام حمراء.. من التراجع إلى التدهور
جلسة نهاية الأسبوع في السوق السعودية لم تكن سوى حلقة جديدة في مسلسل التراجع الحاد الذي يضرب البورصة منذ مطلع العام. المؤشر العام “تاسي” خسر نقاطًا مؤثرة، مع انخفاض جماعي للأسهم الكبرى في قطاعات مثل البنوك والطاقة والبتروكيماويات. شركة أرامكو، رمز السيادة الاقتصادية السعودية، واصلت تراجعها بنسبة قاربت 5% خلال أسابيع، وهو أمر كان يُعد قبل سنوات خطًا أحمرًا في الدعاية الاقتصادية الرسمية.
البورصة اليوم باتت تعاني من تذبذب مفرط، وخروج متواصل للمستثمرين الأجانب، ما يعكس ليس فقط حالة من فقدان الثقة، بل مؤشرًا خطيرًا على فقدان السيطرة.
تأثير القرارات الحكومية على ثقة المستثمرين
الانخفاضات الأخيرة ليست معزولة عن السياق السياسي والاقتصادي الأوسع. قرارات النظام السعودي بالتوسع في الاقتراض، وتوريق الديون، وفرض الرسوم المتكررة، كلها إجراءات أدت إلى إحباط المستثمرين المحليين، ناهيك عن عزوف المستثمرين الأجانب الذين أصبحوا أكثر تحفظًا بعد موجات الاعتقال والرقابة المشددة، حتى على رجال أعمال بارزين.
ما يسمى بـ”رؤية 2030″ أضحت عبئًا على السوق بدل أن تكون محفزًا، إذ أنها تعتمد على الإنفاق الحكومي الضخم على مشاريع لا تحقق عائدًا فوريًا أو مؤكدًا، وتفتقر إلى دراسات جدوى حقيقية.
القطاع المالي والاستثماري في قبضة الارتباك
لم تعد البيانات المالية الصادرة عن الجهات الرسمية تمنح أي طمأنينة. التقارير الربعية تظهر تناقصًا في الأرباح، ارتفاعًا في القروض المتعثرة، وانكماشًا في تمويل القطاع الخاص. البنوك تئن تحت وطأة قروض ضخمة لمشاريع “الترفيه” أو “السياحة” التي لا تعود بعوائد حقيقية، بينما تتأخر المستحقات وتتراكم الالتزامات.
وفي ظل ضعف الرقابة وتضارب التصريحات، باتت إدارة السوق شبيهة بلعبة مراهنات، يتحمل فيها المستثمر الفردي الخسائر الأكبر، بينما تواصل الصناديق السيادية عمليات الشراء والبيع وفق اعتبارات غير مفهومة.
من الترفيه إلى الانهيار.. كيف أثقل الإنفاق غير المنتج كاهل السوق؟
منذ سنوات، اختار النظام السعودي أن يربط اقتصاد السوق بأسواق الترفيه والمهرجانات، فتم إنفاق مليارات الدولارات على سباقات سيارات، حفلات غنائية، وصفقات رياضية مع نجوم عالميين، في وقت كانت البنية التحتية للسوق تترنح.
ما الذي جنته البورصة من كل هذا الترفيه؟ لا شيء سوى مزيد من الانكماش المالي. عوائد مشاريع الترفيه لا تدخل دورة السوق، بل تُستهلك في أجور خارجية، وفواتير استيراد ضخمة، دون أن تُخلق وظائف حقيقية أو استثمارات طويلة الأمد.
نظام اقتصادي بلا شفافيات.. والمستثمر أول الخاسرين
غياب الشفافية في إصدار البيانات، وتضارب الأرقام الرسمية، ونقص الإفصاح المالي الحقيقي في السوق السعودي، كلها عوامل تجعل المستثمر في حيرة دائمة. حتى الشركات الكبرى لا تصدر تقارير تفصيلية واضحة، وغالبًا ما تكون التصريحات الإعلامية بديلًا عن الأداء الفعلي.
وفي ظل سيطرة سياسية كاملة على المفاصل الاقتصادية، يجد المستثمر نفسه في مواجهة قرارات مفاجئة لا يمكن التنبؤ بها، كتجميد أصول، أو فرض ضرائب، أو تحجيم قطاعات دون مقدمات.
صندوق الاستثمارات العامة.. لاعب أم مضارب؟
من بين العوامل التي تزيد من اضطراب السوق السعودي، الدور المتنامي لصندوق الاستثمارات العامة الذي بات يتدخل في السوق بقرارات غير شفافة، تشمل شراء حصص ضخمة في شركات، ومن ثم بيعها بشكل مفاجئ أو ضخ استثمارات في مشاريع خاسرة مثل LIV Golf أو مشاريع سياحية بلا عائد منظور.
هذا الصندوق الذي يُفترض أن يكون ذراعًا تنموية للدولة، أصبح مصدر قلق للمستثمرين الذين يراقبون تحركاته كمضارب ضخم قادر على التلاعب بالسوق لا دعمه. التناقض بين أهدافه المعلنة وأفعاله على الأرض ساهم في هز الثقة بسوق الأسهم.
غياب الثقة الدولية.. السياسة تقتل الاقتصاد
لا يمكن فصل الأداء الاقتصادي عن البيئة السياسية، فالسعودية اليوم تعاني من سمعة سيئة على المستوى الدولي بسبب سجلها في حقوق الإنسان، والاعتقالات التعسفية، وكم الأفواه. وهذا يؤثر بشكل مباشر على شهية المستثمرين الدوليين الذين أصبحوا يفضلون أسواقًا مستقرة ومفتوحة مثل الإمارات وقطر، حيث القضاء مستقل، والتقارير المالية شفافة، والمخاطر السياسية أقل.
حتى أكبر صناديق التحوط العالمية بدأت تتراجع عن ضخ استثمارات جديدة في السوق السعودي، بسبب غياب الضمانات القانونية، وصعوبة إخراج الأرباح، والمخاوف من تدخل الدولة في النزاعات التجارية.
بورصة تعكس اقتصادًا مأزومًا لا إنجازًا وهميًا
الهبوط المتواصل في البورصة ليس مجرد تقلب موسمي، بل إنذار استراتيجي بأن الاقتصاد السعودي يسير في طريق محفوف بالمخاطر. سياسة تلميع الصورة وتجاهل الوقائع لم تعد تجدي نفعًا. النظام السعودي بحاجة إلى مراجعة جذرية لسياساته المالية والاستثمارية، بعيدًا عن عقلية الاستعراض وصناعة الوهم.
الاقتصاد لا يُدار بشعارات ولا مهرجانات، بل بإصلاح مؤسسي، وشفافية حقيقية، وعدالة اقتصادية تمنح المستثمر والمواطن فرصًا عادلة للنمو والاستقرار.