النظام السعودي، الذي طالما تغنى بإصلاحات اقتصادية كبرى في ظل رؤية 2030، يجد نفسه اليوم في مواجهة أزمة مالية داخلية خانقة، دفعت قطاع البنوك والشركات إلى اقتراح توريق الديون المتعثرة كحل مؤقت لتحسين السيولة. لكن هذا الإجراء، رغم بريقه النظري، يثير الكثير من الشكوك حول جدواه الحقيقية، بل يكشف عن عمق التدهور الهيكلي الذي يعصف بالاقتصاد السعودي. فمنذ متى كانت الحلول التجميلية تجدي نفعًا في إنقاذ سفينة تغرق؟
قائمة المحتوى
أزمة الديون المتعثرة تكشف هشاشة الاقتصاد السعودي
الديون المتعثرة ليست وليدة اللحظة. إنها النتيجة المباشرة لعقود من السياسات الريعية، والتوسع في الاقتراض، وغياب منظومة مالية شفافة وعادلة. وفق تقارير مصرفية محلية، ارتفعت نسب الديون المتعثرة في القطاع البنكي السعودي بشكل غير مسبوق في السنوات الثلاث الأخيرة، خاصة بعد تفشي كورونا وانهيار أسعار النفط.
ما كان بالأمس شأنًا محدودًا أصبح اليوم معضلة بنيوية تهدد استقرار النظام المالي بأكمله. في هذا السياق، لم يعد توريق هذه الديون خيارًا استثماريًا، بل أصبح محاولة يائسة لإعادة تدوير الأزمة وتمريرها من يد إلى أخرى.
توريق الديون: ماذا يعني؟ ولماذا الآن؟
التوريق هو عملية تحويل الديون إلى أدوات مالية قابلة للبيع في السوق، بحيث يتم إصدار سندات أو صكوك مدعومة بتلك الديون. من حيث المبدأ، الهدف هو ضخ سيولة فورية للبنوك أو الشركات التي تعاني من أزمة تمويل.
لكن في الحالة السعودية، يتزامن هذا الاقتراح مع ازدياد عدد الشركات التي تواجه صعوبة في تحصيل مستحقاتها، وغياب آليات قضائية شفافة لتحصيل الحقوق. فهل يمكن فعلاً تسويق أوراق مالية مدعومة بأصول معدومة القيمة؟ ومن هم المستثمرون الذين سيجازفون بأموالهم لشراء أدوات مالية مدعومة بديون لا أمل في تحصيلها؟
تحذيرات الخبراء: توريق بلا إصلاح يعمّق الأزمة
يحذر خبراء اقتصاد من أن اللجوء إلى التوريق دون إصلاح جذري في المنظومة الاقتصادية ليس سوى ترحيل للأزمة. يقول الدكتور سامر الحارثي، محلل أسواق المال في الخليج: “التوريق في الأسواق المتقدمة يعتمد على مصداقية القضاء، وشفافية البيانات، وثقة المستثمرين. أما في السعودية، فلا توجد شفافية حقيقية في تقييم المخاطر، ولا قضاء مستقل لحماية المستثمر”.
وأضاف: “ما يجري اليوم أشبه بإعادة تغليف القمامة بورق ملون. إنها محاولة لبيع أصول ميتة في سوق لا تثق أصلًا بالمؤسسات المالية”.
النظام السعودي وغياب الرقابة المالية
أحد أبرز أسباب انفجار الديون المتعثرة هو غياب الرقابة المؤسسية الجادة. البنوك تتوسع في الإقراض، والشركات تصدر التزامات دون وجود ضوابط صارمة، والهيئات المالية تمارس دورها كواجهة تجميلية فقط.
ورغم كل ما يُقال عن الحوكمة والشفافية في رؤية 2030، فإن التقارير السنوية للمؤسسات السعودية لا تزال تفتقر للوضوح، وغالبًا ما تُغلف البيانات الحقيقية بسيل من الإنشاء والتفاؤل المصطنع. فما الذي يضمن أن عملية التوريق لن تتحول إلى فقاعة جديدة تنفجر في وجه الجميع؟
الوجه الآخر للتوريق: تهرّب مؤسسي من الاعتراف بالفشل
في جوهره، التوريق كما يُطرَح اليوم ليس سوى وسيلة للهروب من مواجهة الحقيقة: الاقتصاد السعودي لم يعد قادرًا على توليد العوائد الكافية لسداد التزاماته. بدلًا من الإقرار بالفشل في السياسات الاقتصادية، يختار النظام السعودي اللجوء إلى وسائل مالية تبدو براقة على الورق، لكنها قد تنفجر في وجه الجميع عند أول اختبار جاد.
مثل هذه الأدوات المالية، حين تُستخدم في بيئة لا تتمتع بثقة دولية أو مؤسسات مستقلة، تُحول السوق إلى ساحة قمار لا أكثر. المستثمرون الخارجيون سيراقبون بحذر، والسوق المحلية ستبقى أسيرة التردد والريبة.
الاقتصاد السعودي يحتاج إصلاحًا حقيقيًا لا هندسة محاسبية
ما تحتاجه السعودية اليوم ليس المزيد من التجريب المالي أو التجميل المؤسسي، بل إعادة هيكلة شاملة للسياسات الاقتصادية، تنطلق من محاربة الفساد، وإرساء الشفافية، وتمكين القضاء، وفصل السلطات المالية عن النفوذ السياسي.
توريق الديون المتعثرة هو جرس إنذار، لا حل. وعندما يلجأ النظام إلى مثل هذه الأدوات، فهو يعترف ضمنيًا بأن الأزمة أعمق مما يُعلن، وأن السطح اللامع يخفي تحته شروخًا قد تتحول إلى انهيار إذا لم يُعالجها إصلاح حقيقي، لا خداع رقمي.