النظام السعودي لا يتردد في توظيف ملف الاعتقالات والاحتجازات التعسفية كأداة سياسية تخدم مصالحه المتقلبة. آخر فصول هذا الاستخدام الفجّ كان الإفراج عن معتمر إيراني بعد 42 يومًا من الاحتجاز في المدينة المنورة، تزامنًا مع زيارة وزير الدفاع السعودي لطهران ولقائه المرشد الإيراني علي خامنئي. هذه الخطوة ليست فقط دليلاً على فشل المنظومة القضائية، بل تكشف هشاشة القرار السيادي الذي يُدار بمنطق الصفقات لا العدالة.
قائمة المحتوى
احتجاز معتمر ثم إطلاقه.. العدالة تحت الطلب
ما جرى مع المعتمر الإيراني المحتجز لأكثر من 42 يومًا في المدينة المنورة، يعيدنا إلى السؤال الجوهري: هل العدالة في السعودية تحكمها القوانين أم الأوامر السياسية؟ بحسب وسائل إعلام إيرانية، احتُجز المعتمر بتهمة “التصوير والنشر غير القانوني”، وهي تهمة فضفاضة تُستخدم عادة لتكميم الأفواه داخل المملكة، ولكنها طُبّقت هنا على زائر أجنبي لمجرد حمله لهاتفه في مكان عام.
استمر التحقيق أكثر من شهر، ولم تُعلن أي تفاصيل حول طبيعة “الجريمة”، ولا الإجراءات القضائية المتخذة، إلى أن جاء الفرج – لا من المحكمة، بل من مكتب العلاقات الثنائية بين الرياض وطهران.
زيارة خامنئي والإفراج المشروط.. مؤشرات الخضوع السياسي
التوقيت لم يكن مصادفة. فقد تزامن الإفراج عن المعتمر مع زيارة وزير الدفاع السعودي إلى إيران ولقائه بالمرشد الأعلى علي خامنئي. هذه الزيارة التي اعتُبرت تاريخية بحد ذاتها، كشفت أيضًا أن النظام السعودي مستعد لاستخدام المعتقلين كرسائل سياسية ناعمة عندما تستدعي المصلحة ذلك.
هل كان الاحتجاز قرارًا قانونيًا؟ أم مجرد ورقة ضغط تفاوضية تم التنازل عنها بمجرد إتمام الصفقة الدبلوماسية؟ في كلتا الحالتين، المواطنون السعوديون، والمقيمون، والزوار، جميعهم باتوا تحت رحمة تقلبات السياسة الخارجية.
النظام السعودي واستغلال ملف المعتقلين كورقة دبلوماسية
النظام السعودي لا يتوانى عن تحويل الإنسان إلى أداة في لعبة النفوذ السياسي. من احتجاز معتمرين، إلى اعتقال نشطاء، إلى منع السفر عن المعارضين، كلها أوراق تُستخدم لتقديم التنازلات أو المساومة في ملفات إقليمية ودولية.
التحقيقات التي استمرت 42 يومًا لم تُثمر عن شيء. لا محكمة، لا دليل، ولا حكم. فقط احتجاز ثم إطلاق سراح بأمر سياسي. هذا النمط أصبح مألوفًا في السعودية، حيث تُفرج الدولة عن معتقلين “بمكرمة ملكية” أو “توجيهات عليا”، لا بحكم قضائي. وهي آلية تُفرغ مفهوم العدالة من معناه، وتحوّل القانون إلى أداة سياسية لا أكثر.
خوف من الماضي القريب: هاجس الطائرات المسيّرة
الباحث الإسرائيلي داني سيترينوفيتش لم يتردد في فضح السبب الحقيقي وراء هذا التودد السعودي لإيران. فالمخاوف من تكرار سيناريو هجمات 2019 بالطائرات المسيّرة، والتي عطلت إنتاج أرامكو وشلت نصف صادرات النفط، لا تزال حاضرة في ذهن صُنّاع القرار في الرياض.
وبحسب تصريحاته لموقع “واينت” العبري، فإن السعوديين “يريدون وضوحًا استراتيجيًا مع طهران”، لتجنّب أي دعم – ولو ضمني – لأي هجوم محتمل على منشآت إيران النووية. هذا يعني أن السعودية لم تعد ترى نفسها قوة إقليمية مستقلة، بل تُعيد تموضعها على قاعدة الخوف لا المبادرة.
ما وراء التطبيع مع طهران: أمن النفط أهم من الكرامة
كل ما تفعله الرياض تجاه طهران ليس بدافع التسامح أو الرغبة في تصفير المشكلات، بل بسبب هاجس أمني واقتصادي مرتبط بالنفط. إيران باتت تملك القدرة على تهديد البنية التحتية النفطية السعودية، لذلك فإن كل جهود التقارب تهدف إلى شراء الوقت و”الهدوء”.
من أجل النفط، يُحتجز المعتمر ثم يُفرج عنه. من أجل النفط، تُطوى الملفات الحقوقية، وتُغلق التحقيقات، وتُضرب العدالة في مقتل. في المقابل، لا يتغير شيء في الداخل السعودي: النشطاء خلف القضبان، والشفافية مفقودة، وسيادة القانون غائبة.
ملف الحقوق والحريات: الوجه الذي لا يريد النظام كشفه
كل ما سبق يُعيدنا إلى حقيقة دامغة: النظام السعودي لا يؤمن بالحقوق، بل يراها عبئًا على مشاريع “التحول” المزعومة. في بلد تُدار فيه العدالة بتوجيهات، وتُمارس فيه القوانين كأدوات إذلال، لا يمكن الحديث عن إصلاح حقيقي.
ملف الحريات في السعودية لا يزال الأسوأ في المنطقة، بحسب هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية. مئات المعتقلين، محاكمات سرية، وتهم فضفاضة مثل “النشر غير النظامي” أو “التضامن مع جهات معادية”، تُستخدم لتجريم أبسط أشكال التعبير.
وإذا كان المعتمر الإيراني قد نجا بفضل ضغط خارجي، فإن آلاف المعتقلين في الداخل ينتظرون معجزة لا تأتي، ولا تغطّيهم أية كاميرات، ولا تذكرهم وزارة خارجية أجنبية.
عدالة تحت الطلب وسيادة خاضعة لمعادلات النفط
ما حدث ليس إلا نموذجًا مصغرًا لطبيعة الحكم في السعودية: انتقائي، انتهازي، خاضع للأولويات السياسية. المعتقل يُحتجز أو يُفرج عنه وفقًا لاحتياجات ولي العهد في اللحظة الراهنة، لا بحسب نص قانوني أو عدالة مستقلة.
في ظل هذا المشهد، لا يبدو مستقبل الحريات في المملكة واعدًا. فكلما ازدادت التهديدات على الخارج، ضاق الخناق على الداخل. وبينما يُبرم النظام الصفقات مع الخصوم لحماية النفط، يواصل قمع المواطنين بلا رحمة أو محاسبة.