وسط العدوان المتواصل على غزة والدمار الواسع الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية، تطفو على السطح مبادرة إسرائيلية جديدة تُوصف بأنها محاولة لتمرير تطبيع فجّ مع النظام السعودي، بواجهة اقتصادية وإنسانية. المبادرة التي يقودها أكثر من 100 شخصية من كبار رجال الأعمال الإسرائيليين تحت مسمى “درع أبراهام”، ليست سوى غطاء ناعم لمشروع سياسي يستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وإخضاع غزة بالكامل لهيمنة إقليمية تقودها تل أبيب بدعم من أنظمة عربية تتماهى مع مصالح الاحتلال.
قائمة المحتوى
تحالف المال والسياسة: إسرائيل تروّج للسلام على أنقاض غزة
المبادرة الجديدة التي أُعلن عنها تحت مظلة “درع أبراهام” تأتي في وقتٍ لم تجف فيه بعد دماء الشهداء في غزة، وفي ظل حرب إبادة مستمرة. إسرائيل تحاول استغلال مرحلة ما بعد الحرب لترويج “سلام اقتصادي” مشروط، قائم على فرض أمر واقع جديد، تتولى فيه دول مثل السعودية والإمارات الجانب المالي، بينما تتولى إسرائيل الهندسة السياسية للمشهد القادم.
النظام السعودي والورقة الاقتصادية: تمويل مشروط لتصفية المقاومة
يظهر النظام السعودي في هذه المبادرة كطرف مالي مستعد للتمويل دون اشتراط العدالة للفلسطينيين، بل وفق الشروط الإسرائيلية: حكومة انتقالية لا تضم حماس، وشرطة بديلة تقضي على بُنى المقاومة، وتمويل إعادة الإعمار بشروط “أمنية”. هذا الدور ينسجم مع نمط التطبيع غير المعلن الذي تتبعه السعودية، حيث تشهد العلاقات تحسنًا متسارعًا في الخفاء، يتضح من اللقاءات الأمنية، والتسهيلات الاقتصادية، والتنسيق في ملفات إقليمية، رغم استمرار الخطاب العلني بالنفي.
وتعزز تصريحات المستشارة السياسية الإسرائيلية ليان فولك-ديفيد هذا الاتجاه، عندما قالت: “علينا أن نضمن عدم نشوء جيل جديد من أمثال النخبة [في كتائب القسام]، وهذا تحديدًا ما فعله السعوديون والإماراتيون ببراعة داخل بلدانهم: نظفوا المدارس والمساجد، وهم يرغبون الآن بقيادة مبادرات مماثلة داخل غزة.”
من التطبيع إلى التبعية: درع أبراهام يعيد إنتاج الاحتلال بثوب خليجي
تحت شعار “التحالف من أجل الأمن الإقليمي”، تسعى إسرائيل إلى إعادة تقديم احتلالها كجزء من نظام استقرار جديد في المنطقة، قائم على تعاون اقتصادي–أمني مع أنظمة سلطوية لا تمثل شعوبها. “درع أبراهام” ليس سوى إعادة تدوير لصفقة القرن، ولكن بواجهة أكثر “نعومة” وخطاب أكثر “تسويقيًا”، حيث يتم تقديم الاستعمار على أنه استثمار، والسيطرة السياسية على أنها أمن إقليمي.
وفي هذا السياق، يرى الباحث الفلسطيني المقيم في لندن، سامي أبو شاهين، أن “الرياض تسير نحو تطبيع وظيفي، ليس من خلال الاتفاقيات العلنية، بل عبر الملفات الاقتصادية والأمنية، وأبرزها ملف غزة”. ويضيف: “التمويل السعودي ليس بريئًا، بل مشروط بتحقيق أهداف أمنية إسرائيلية واضحة، وفي مقدمتها تحييد المقاومة”.
تطبيع النظام السعودي: من السر إلى العلن
منذ سنوات، تُبنى لبنات التطبيع السعودي–الإسرائيلي بشكل ممنهج. تسهيلات غير مباشرة للحجاج والمعتمرين القادمين من إسرائيل، مشاركات إسرائيلية في مؤتمرات اقتصادية وأمنية تستضيفها الرياض، وتصريحات دبلوماسية ناعمة تصدر بين الحين والآخر، تشير إلى أن العلاقات تسير نحو العلنية رغم النفي الرسمي المتكرر.
ويُذكر أن ولي العهد محمد بن سلمان وصف إسرائيل في مقابلة مع مجلة “ذي أتلانتيك” عام 2022 بأنها “حليف محتمل”، مؤكدًا أن “الفلسطينيين يجب أن يقبلوا بما يُعرض عليهم أو يصمتوا”، في موقف عكس توجه النظام نحو التطبيع بأي ثمن، حتى على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
غزة ليست للبيع: مبادرات التطبيع لن تعيد إعمار الأرواح
غزة ليست سلعة في مزاد المصالح الإقليمية، ولا شعبها أوراق مساومة بين رجال أعمال وسفراء. الحديث عن إعادة إعمار غزة دون الحديث عن العدالة للفلسطينيين هو تزييف للواقع. أي مبادرة لا تعترف بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة وتقرير المصير، لن تكون إلا محاولة جديدة لشراء الصمت.
المليارات لا تبني كرامة، ولا تحيي الأمل إذا كانت مشروطة بقبول الاحتلال، والتخلي عن من دافعوا عن غزة حين صمت الجميع. “درع أبراهام” ليس برنامجًا لإعادة الإعمار، بل خطة لتأهيل غزة سياسيًا واقتصاديًا كي تكون “آمنة” لمصالح إسرائيل وحلفائها.
المقاومة لا تُقايض بالمليارات
ما يجري الآن هو محاولة مكشوفة لفرض وقائع سياسية بوسائل اقتصادية، وكل من يراهن على أن المال السعودي والإماراتي قادر على إنهاء روح غزة، لا يفهم تركيبة هذا الشعب. لقد وُلدت المقاومة من تحت الأنقاض، ولن تنتهي بمليارات النفط. وتمامًا كما فشلت “صفقة القرن”، سيفشل هذا التحالف الاستثماري الأمني الذي يحاول إسكات الأصوات الحرة بالمال، والترويج للتطبيع كمنفذ وحيد.