مشروع نيوم، الذي صُوّر كتحفة المستقبل وواجهة رؤية 2030، ينكشف الآن كسراب صحراوي تبخر تحت شمس الواقع القاسي. النظام السعودي الذي أنفق المليارات على الحفريات والشعارات البراقة، يجد نفسه محاصرًا بالأزمات المالية، واضطر إلى التخلي عن دعم مبادراته الاستعراضية مثل رعاية فريق “مكلارين” لسباقات السيارات الكهربائية. الانسحاب الرسمي بسبب “جفاف التمويل” ليس سوى إشارة أولى على بداية تفكك الحلم المكلف الذي لطالما رُوّج له، بينما كانت الأساسات الاقتصادية تهتز من تحت قدميه.
قائمة المحتوى
من “رؤية 2030” إلى كابوس 2027
التوقف المعلن عن دعم نيوم لفريق مكلارين بحلول 2027 يعكس ما هو أعمق من مجرد إعادة توزيع للميزانيات؛ إنه اعتراف ضمني بأن المشروع برمته يتآكل من الداخل. كان يُفترض أن تكون نيوم ركيزة التحول الاقتصادي، لكنها باتت عبئًا ماليًا يهدد الاستقرار الاقتصادي للمملكة.
موقع “جالوبنيك” لم يُجمل المأساة حين أشار إلى أن السعودية تعاني من “جفاف نقدي” يعصف بمشاريعها الترويجية، ما دفعها إلى التخلي عن اتفاقات سبق أن بالغت في التفاخر بها.
نيوم: وهم هندسي يبتلع المليارات
منذ انطلاقة المشروع، والشكوك تحوم حول قابليته للتنفيذ. محللون اقتصاديون كبار مثل “روبرت موغا” وصفوا نيوم بأنها “خطأ استراتيجي فادح”، مشيرين إلى أن فكرة إنشاء مدينة ذكية بهذا الحجم وسط بيئة صحراوية قاسية، ودون اقتصاد منتج داعم، مجرد خيال مكلف.
فشل نيوم ليس في الهندسة فقط، بل في الرؤية الاقتصادية الكلية: مدينة من المفترض أن تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الخضراء، بينما لا تزال المملكة تعتمد بنسبة 70% على النفط كمصدر رئيسي للدخل.
النظام السعودي يسدد فاتورة الطيش المالي
التراجع الحاد عن الالتزامات الترويجية مثل رعاية فورمولا إي مع مكلارين يكشف بوضوح حجم الطيش المالي الذي مارسه النظام. بلا دراسات جدوى حقيقية، اندفعت المملكة نحو إبرام عقود بالمليارات، أملاً في “شراء المستقبل”، لكنها الآن تكتشف أن المستقبل لا يُشترى بالمال بل بالتخطيط العاقل.
صحيفة “فايننشال تايمز” كانت قد حذرت قبل سنوات من أن “مشاريع مثل نيوم قد تتحول إلى مدن أشباح فاخرة، تستهلك ثروات الأجيال القادمة دون جدوى حقيقية”.
الإعلام السعودي: تجاهل الواقع وتزييف الحقائق
رغم تراكم المؤشرات السلبية، لا يزال الإعلام الرسمي يُجمّل الصورة، متجاهلًا إلغاء المشاريع وتأجيل الجداول الزمنية، متحدثًا عن نجاحات وهمية لا يراها أحد على الأرض. في المقابل، وسائل الإعلام الدولية تسرد قصة مختلفة: تأجيل تنفيذ مشروع “ذا لاين”، تباطؤ التقدم في البنى التحتية، وموجات من الاستقالات في الكوادر التنفيذية.
الصحفي الاقتصادي سايمون كير كتب: “مشروع نيوم يشبه بناء قصر على الرمال: يبدو مبهرًا من بعيد، لكنه لا يصمد أمام أول عاصفة.”
نزيف اقتصادي ومخاوف استثمارية
ليس توقف دعم مكلارين إلا بداية موجة أوسع من التقليصات. المستثمرون الأجانب الذين كانوا يترددون أصلًا باتوا أكثر عزوفًا عن ضخ أموالهم في مشاريع يشوبها الغموض. كما أن تصنيف المملكة الائتماني بات مهددًا مع تزايد الاعتماد على الديون لتمويل المشاريع العملاقة.
البنك الدولي أشار في تقريره الأخير إلى أن “غياب الشفافية في بعض المبادرات العملاقة بالمملكة قد يؤثر سلبًا على ثقة الأسواق الدولية”، في إشارة غير مباشرة لمشاريع مثل نيوم.
الرياضة والفن كأقنعة للهروب من الأزمات
النظام السعودي حاول استخدام الرياضة والترفيه لصرف الأنظار عن فشل السياسات الاقتصادية. من استقطاب النجوم العالميين إلى إقامة سباقات الفورمولا 1، تم ضخ أموال طائلة لتقديم صورة “السعودية الجديدة”. لكن خلف هذه القشرة البراقة، تتفاقم الديون والعجز التجاري، وتتآكل احتياطيات النقد الأجنبي.
خبراء في “بلومبيرغ” أشاروا إلى أن “الإنفاق السعودي على الرياضة لا يؤدي إلى تعزيز الاقتصاد، بل يضيف أعباءً مالية جديدة على الخزانة العامة.”
نيوم: المشروع الذي ابتلع الحلم السعودي
توقف دعم المشاريع الخارجية مثل فورمولا إي إشارة واضحة إلى أن المملكة مضطرة اليوم إلى مراجعة أولوياتها، ولو متأخرة. لكن السؤال الأكبر: كم من المليارات أُهدرت؟ وكم من الفرص التنموية الحقيقية تم تجاهلها مقابل أحلام تسويقية لم تصمد أمام أول اختبار مالي؟
المواطن السعودي العادي لا يرى نيوم إلا كرمز للتبذير، بينما يعاني يوميًا من غلاء المعيشة، البطالة، وتراجع الخدمات الأساسية. أين العائد الحقيقي لكل هذا البذخ الإعلامي؟ لا أحد يملك جوابًا مقنعًا.
سقوط أقنعة المستقبل المزيّف
نيوم لم تكن يومًا مشروعًا للشعب السعودي، بل واجهة براقة لنظام يهوى التباهي على حساب الحقيقة. ومع كل تقرير دولي يُبرز تعثر التنفيذ وجفاف الأموال، يزداد الوعي بحقيقة أن “مدينة الأحلام” مجرد خدعة تسويقية أخرى ستسقط، كما سقطت مشاريع كثيرة قبلها، تحت وطأة الحقائق الاقتصادية التي لا ترحم.
السعودية لا تحتاج إلى مدن خرافية ولا إلى سباقات ترويجية؛ تحتاج إلى عدالة اقتصادية، شفافية حقيقية، وتنمية تمسّ حياة المواطن. وإلا فستظل أحلام الرمال تنهار واحدة تلو الأخرى، مهما تزيّنت بشعارات المستقبل.