حين يتحول الوطن إلى “بلاي ستيشن”: النظام السعودي يغرق في الأوهام الرقمية

حين يتحول الوطن إلى “بلاي ستيشن”: النظام السعودي يغرق في الأوهام الرقمية

بينما يعاني الاقتصاد السعودي من عجز متفاقم، وضرائب مرهقة للمواطن، وتضخم ينهك الطبقات الوسطى، يخرج علينا المسؤولون في الرياض بتصريحات احتفالية عن توقع نمو إيرادات قطاع ألعاب الفيديو إلى 1.5 مليار دولار في السنوات القادمة. وكأن هذا “الإنجاز الافتراضي” سيُنقذ المملكة من الانكماش الاقتصادي، أو يُخرج الشباب من البطالة، أو يُرمم سمعة رؤية 2030 التي بدأت تتراجع تحت وطأة الفشل والإعلانات الفارغة.

في بلد لا تُنتج فيه صناعة تقنية حقيقية، ولا يزال يعتمد على النفط لتغطية أكثر من 70% من إيراداته، يصبح الحديث عن “قيادة صناعة الألعاب عالميًا” ليس فقط نكتة سياسية، بل دليلاً جديدًا على حالة الانفصال التام التي يعيشها النظام عن الواقع اليومي للمواطن السعودي.

ألعاب إلكترونية بدلًا من اقتصاد منتج

تتوقع تقارير رسمية أن تصل إيرادات ألعاب الفيديو في السعودية إلى 1.5 مليار دولار بحلول عام 2030، وتزعم القيادة السعودية أن المملكة “أصبحت مركزًا عالميًا للألعاب والرياضات الإلكترونية”. لكن ماذا تعني هذه الأرقام فعلًا في السياق الاقتصادي العام؟

أولًا، هذه الإيرادات لا تُقارن بحجم الإنفاق الحكومي على هذا القطاع، حيث أن النظام أنفق مليارات الدولارات على شركات أجنبية واستوديوهات ألعاب عالمية لشراء أسهم فيها، أو رعايتها باسم “صندوق الاستثمارات العامة”، دون وجود صناعة محلية حقيقية.

ثانيًا، لا توجد أي بنية تحتية تعليمية أو تكنولوجية حقيقية قادرة على تطوير صناعة ألعاب محلية مستدامة. ما يُنفق هو لشراء الجاهز، وليس لبناء قاعدة إنتاج.

ثالثًا، في بلد يعيش فيه الشباب تحت عبء البطالة والإقصاء، يصبح الترويج لألعاب الفيديو وكأنها “قطاع اقتصادي إستراتيجي” محاولة رخيصة لإلهاء العقول وصرف الأنظار عن القضايا الجوهرية.

هل نصنع ألعابًا أم نشتري الوهم؟

النظام السعودي لم يقدم حتى الآن لعبة سعودية واحدة استطاعت المنافسة عالميًا. بل إن أغلب ما يتم تسويقه هو استحواذات على شركات أجنبية أو استثمارات في شركات ألعاب في اليابان وكوريا وأوروبا.

ما يحدث ليس تأسيسًا لصناعة، بل استيراد لنجاحات الآخرين وتغليفها بهوية وطنية وهمية. فهل استثمارك في “نينتندو” أو “أكتيفيجن” يعني أنك تصنع ألعابًا؟! أم أنك ببساطة تُنفق أموال النفط لشراء سمعة وصورة إعلامية أمام الغرب؟

الحقيقة أن النظام لا يريد صناعة ألعاب… بل صناعة أوهام، كما فعل من قبل في مشاريع مثل “نيوم” و”القدية” و”ذا لاين”، التي تستهلك مليارات الدولارات دون أي عائد ملموس، سوى صور دعائية وتصريحات طموحة بلا مضمون.

أوهام “الرياضات الإلكترونية”: غلاف لواقع مأزوم

يرافق الترويج لهذا القطاع تضخيم دعائي مفرط لما يسمى “الرياضات الإلكترونية”، حيث أُنشئت اتحادات وهيئات بموازنات ضخمة، وأُقيمت بطولات بملايين الدولارات، بحجة أن السعودية تريد أن تكون “مركز العالم الرقمي”.

لكن خلف هذا الغلاف اللامع، هناك واقع مأزوم:

  • غياب تام للحرية الفكرية والتقنية، حيث يُمنع تداول ألعاب معينة بحجة مخالفتها للقيم المحلية.
  • تضييق على مطوري المحتوى المحليين، وفرض رقابة ثقيلة على أي أفكار لا تتماشى مع خطاب الدولة.
  • توجيه دعم الدولة نحو مشاهير اليوتيوب والتيك توك، بدلاً من تأسيس جامعات تكنولوجية أو مراكز تطوير.

ببساطة، تُستخدم الرياضات الإلكترونية كستار لعالم من القمع، والسطحية، وإعادة تشكيل وعي الشباب بما يناسب مصالح النظام، لا بما يخدم بناء مجتمع منتج وحر.

شباب بلا فرص… ونظام يغذيه الترفيه

تتحدث التقارير الرسمية عن “أكثر من 60% من السعوديين تحت سن 30”، وهي حقيقة كان من المفترض أن تُقابل باستثمار في التعليم، وتمكين سياسي، وفرص عمل حقيقية. لكن النظام فضّل الطريق السهل: منحهم ألعاب فيديو، ومسابقات إلكترونية، وأوهام البطولة في “فيفا” و“كول أوف ديوتي”، بدلاً من إشراكهم في رسم مستقبل بلادهم.

الترفيه لا يُعالج الأزمات، واللعب لا يبني اقتصادًا. لكن ما يريده النظام هو استثمار وعي الشباب لصالح بقائه، وتحويله إلى جمهور سلبي لا يطرح أسئلة، ولا يطالب بحقوق، ولا يرى في الحياة سوى شاشة وزر تحكم.

بين الرؤية والسخرية: مستقبل اقتصادي على أكتاف جهاز تحكم

حين يُروّج النظام السعودي لصناعة ألعاب الفيديو كأحد أعمدة رؤية 2030، فإننا لا نكون أمام سياسة تنموية، بل أمام عرض مسرحي فارغ. فالمملكة التي لم تستطع بناء مدينة ذكية واحدة، أو إنهاء الاعتماد على النفط، أو تحقيق أي من وعود التوظيف، لن تصنع فجأة ثورة رقمية في قطاع الألعاب.

الاقتصاد الوطني بحاجة لإصلاحات بنيوية: حوكمة شفافة، عدالة اجتماعية، تمكين سياسي، وقوانين تحمي الابتكار. لكن بدلاً من ذلك، يتم صرف الأموال على صناعة الترفيه بوصفها بديلًا عن الحقوق السياسية والاقتصادية.

الاقتصاد ليس لعبة… والكرامة ليست “سوبر ماريو”

أن يستثمر النظام السعودي في ألعاب الفيديو بينما يتجاهل الفقر، والبطالة، وانهيار الرعاية الصحية، يعني أن الدولة تحولت إلى مشروع دعائي، يُدار بمنطق التسويق لا بمنطق التخطيط.

وإذا كان النظام يعتقد أنه يمكنه شراء صمت الشباب بجهاز تحكم، فإن الواقع سيُعيد تصويب الاتجاه عاجلاً أم آجلاً.

فالاقتصاد ليس لعبة، والمستقبل لا يُبنى بالأزرار، والكرامة لا تُستعاد عبر جوائز إلكترونية، بل بالعدالة، والمشاركة، وصوت المواطن الحر.

شارك المقالFacebookXEmailWhatsAppLinkedIn
اترك تعليقاً