قائمة المحتوى
السعودية ترمي ثرواتها في حضن واشنطن
في مشهد لا يخلو من الاستعراض السياسي المبتذل، أعلنت السعودية عن تعهدات استثمارية ضخمة في الولايات المتحدة تصل إلى 600 مليار دولار، ترافقت مع صفقة دفاعية وُصفت بأنها “الأكبر في التاريخ” بقيمة 142 مليار دولار، رغم أن ميزانية الدفاع السعودية الفعلية لا تتجاوز 78 مليار دولار. هذه الأرقام، التي رُوّج لها في الإعلام الرسمي كـ”إنجاز تاريخي”، ليست سوى فقاعات سياسية دعائية، لا أساس لها من الشفافية أو الواقع الاقتصادي، وتُعبر عن منطق التبعية العمياء وشراء النفوذ الخارجي على حساب المواطن والوطن.
في وقت يُطالب فيه السعوديون بـ”الراتب الذي لا يكفي الحاجة”، ويُثقلون بالضرائب والرسوم، ويفتقر الشباب إلى فرص عمل حقيقية، تُنثر الأموال بلا حساب على صفقات غامضة لا يعرف أحد تفاصيلها. فهل هذه استثمارات؟ أم نوعٌ جديد من الابتزاز الأمريكي؟ أم محاولة يائسة من ابن سلمان لشراء الرضا الدولي والتغطية على فشل داخلي مدوٍّ؟
اتفاقيات بلا تفاصيل… وصفقات بلا رقابة
الصفقتان، الاستثمارية والدفاعية، تعانيان من أزمة فادحة: غياب التفاصيل. لا بيان رسمي شفاف، لا وثائق منشورة، لا جدول زمني، ولا توضيح لمجالات الإنفاق، ولا حتى الجهات المستفيدة داخل السعودية. تمامًا كما حدث مع مشاريع “نيوم” و”ذا لاين” و”القدية”، ضُخّت أرقام هائلة على الورق، لكنها تبخرت على الأرض.
بلومبيرغ نقلت عن محللين بارزين، مثل بروس ريدل وبرايان كاتوليس، شكوكهم الكبيرة حول الأرقام. ريدل، وهو مسؤول سابق في الاستخبارات الأمريكية، وصفها بأنها “دعاية رائعة” تخدم ترامب وابن سلمان سياسيًا، لكنها خالية من المضمون. أما كاتوليس فرأى أن كل هذه الضجة “تتعلق بالمظهر”، وهي محاولة لتلميع العلاقات الثنائية بعد سنوات من التوتر، لا أكثر.
600 مليار دولار: لمن؟ ولماذا؟
تعهد السعودية باستثمار 600 مليار دولار في أمريكا يُطرح كعنوان انتصاري في الإعلام السعودي، لكن الواقع أكثر قتامة. هذه المليارات ستُضخ في الاقتصاد الأمريكي، تُموّل بها شركات السلاح والتكنولوجيا والبنية التحتية هناك، بينما الداخل السعودي يترنح:
- العجز في الميزانية تجاوز 15 مليار دولار في الربع الأول من 2025.
- التضخم مستمر، والبطالة تُهدد مستقبل الشباب.
- الخدمات الصحية والتعليمية تعاني من ترهل.
- الأحياء الفقيرة تزداد، والطبقة المتوسطة تختفي.
فأين الأولويات الوطنية؟ وكيف يُبرر النظام إنفاق 600 مليار دولار في الخارج، بينما يطالب المواطنين بالتقشف؟ أي رؤية هذه التي ترى في دعم وول ستريت أهم من دعم أهل نجد والحجاز؟
صفقة الدفاع: سلاح بلا حرب… وجيش بلا كرامة
أما الاتفاقية الدفاعية البالغة 142 مليار دولار، فهي نسخة مكررة من الابتزاز الأمريكي، تُشترى بها طائرات ومعدات لا حاجة فعلية لها. فهل يعقل أن تشتري السعودية صفقات تفوق ضعف ميزانية دفاعها المعلنة؟ وأي عقل اقتصادي يجيز هذا الإنفاق؟
الصفقة تفتقر لأي معلومات حقيقية: لا عدد الطائرات، لا نوع الأسلحة، لا جدول التسليم. هي مجرد رقم صُنع في مكتب علاقات عامة، لتُقدَّم كهدية إعلامية لترامب، ولمنح ولي العهد صورة “الحليف القوي” الذي ينعش الاقتصاد الأمريكي.
لكن في الحقيقة، لا تعني هذه الصفقات سوى مزيد من التبعية، ومزيد من تحميل المواطن السعودي أعباء ديون غير ضرورية، ومزيد من تحويل المؤسسة العسكرية إلى مستورد دائم، بلا تصنيع، ولا اكتفاء ذاتي، ولا كرامة.
شعب يُنهك… ونظام يُبذّر
ما يُفاقم المأساة هو أن هذه الأموال تأتي من صندوق الاستثمارات العامة، الذي يُدار في الظل دون محاسبة أو شفافية. أموال تُجنّد في الخارج لصالح الأجانب، بينما المواطن لا يجد وظيفة، والأسرة السعودية تكافح لتأمين سكن أو تعليم جيد.
في أي بلد عاقل، يكون الاستثمار موجهًا نحو الداخل أولًا: بناء مصانع، دعم الشركات الوطنية، توظيف المواطنين، تقوية التعليم، تحسين الخدمات. لكن في ظل نظام لا يؤمن بالمحاسبة، تصبح المليارات وسيلة لتثبيت الحكم، ومغازلة واشنطن، وإسكات النقد الدولي، وليس لبناء وطن متماسك.
ترامب يحصل على الأموال… والسعوديون يحصلون على الفتات
الصفقة لا تخدم سوى طرفين: دونالد ترامب، الذي يعود إلى البيت الأبيض باحثًا عن إنجازات سريعة، ومحمد بن سلمان، الذي يريد تأكيد شرعيته في واشنطن. أما الشعب السعودي؟ فلا أحد يسأله، ولا أحد يمثله، ولا أحد يستأذنه.
وبينما تُضخ الأموال في شركات أمريكية، يتلقى السعوديون وعودًا جوفاء، وشعارات مكررة، وإعلامًا حكوميًا يحاول إقناعهم بأن هذه الصفقات “ستعود بالنفع لاحقًا”، في تكرار ممل لكذبة “رؤية 2030”.
هذا ليس استثمارًا… هذه خيانة مالية وطنية
عندما يُنفق نظام سياسي مئات المليارات من أموال شعبه على صفقات خارجية بلا تفاصيل، وبلا مردود واضح، في ظل فقر داخلي، وبطالة، وأزمات معيشية… فإن هذا لا يُعد استثمارًا، بل خيانة وطنية موثقة بالأرقام.
600 مليار لواشنطن، و142 مليارًا أخرى لشراء أسلحة لا تُستخدم، بينما تُهمل المستشفيات، وتُهجر الجامعات، ويُقمع المواطن إن سأل: إلى أين تذهب أموالنا؟
إن الصفقات الحقيقية التي يحتاجها السعوديون ليست مع أمريكا، بل مع أنفسهم: عقد اجتماعي جديد، محاسبة شفافة، مشاركة في القرار، وسيادة على الثروات.
أما تبديد الأموال مقابل دعم سياسي أمريكي، فهو طريق لا يقود إلا إلى مزيد من الذل… ومزيد من الغضب القادم.