بينما يستعرض النظام السعودي طموحاته الضخمة لاستضافة كأس العالم 2034، ويضخ المليارات في مشاريع ملاعب ومدن ترفيهية، تجري في الخفاء مأساة إنسانية صامتة. خلف كل حجر يُرفع، وكل منشأة تُبنى، هناك عامل وافد يُسحق، يُهمل، ويموت في ظروف غير إنسانية، لا يُعرف عنها سوى حين تتسرب الحقيقة من وثائق منظمة حقوقية، أو من صرخة أم فقدت ابنها في غربة العمل القاتلة.
تقارير منظمة “هيومن رايتس ووتش” الأخيرة كشفت، بما لا يدع مجالًا للشك، أن السعودية تمضي في طريقها نحو “تنظيم مونديال الدم”، إذا جاز التعبير. عشرات العمال يُقتلون حرفيًا في مواقع البناء، سقوطًا من المباني، صعقًا بالكهرباء، بل وحتى في حوادث تفصل فيها رؤوسهم عن أجسادهم. هذه ليست نُذر مبالغة، بل حقائق موثقة من مؤسسات دولية، تعكس مدى الازدراء الذي يعامل به النظام السعودي أجساد العمال الذين جاؤوا من الهند وبنغلاديش ونيبال بحثًا عن لقمة عيش، فعادوا إلى ذويهم في توابيت… أو لم يعودوا أبدًا.
قائمة المحتوى
مشروع المونديال… ومقبرة العمال
مع سباق النظام السعودي نحو تنفيذ مشاريع كأس العالم، تتكثف أعمال البناء في مختلف أنحاء المملكة. ما لا يُقال في المؤتمرات الصحفية، يُقال في بيانات المنظمات الحقوقية: سلامة العمال لا تشكل أولوية، والتكلفة البشرية تُعد هامشًا قابلًا للتجاهل طالما بقيت صورة البلاد براقة على شاشات الفيفا.
وثّقت “هيومن رايتس ووتش” مقابلات مع عائلات 31 عاملًا توفوا في السعودية. تتراوح أعمارهم بين 23 و52 عامًا، توفوا في مواقع العمل التي كان يُفترض أن تُمثل أحلام التنمية. لم يحصلوا على حماية، ولا على تدريب، ولا على تأمين، ولا حتى على شهادة وفاة محترمة. بعضهم صُنّفت وفاته بأنها “طبيعية”، رغم السقوط من الطوابق المرتفعة أو الموت بصعقة كهربائية!
قوانين شكلية وتحقيقات كاذبة
رغم أن النظام يملك قوانين تُلزم أصحاب العمل بتوفير سياسات السلامة المهنية، إلا أن هذه النصوص لا تُطبق إلا في الحملات الإعلامية، وليس في أرض الواقع. الحقيقة أن مواقع البناء في المملكة، خاصة في المشاريع الضخمة، تتحول إلى ساحات موت بطيء، لا تخضع لأي رقابة مستقلة، ولا يتم فيها التحقيق الجدي في الحوادث، بل غالبًا ما تُغلق الملفات بوثيقة طبية غامضة، وتُدفن القصة مع الضحية.
السلطات السعودية لا تكتفي بالتقصير، بل تشارك في التواطؤ. بحسب المنظمة، فإن كثيرًا من العائلات لم تحصل على تفسير رسمي لوفاة أبنائها، وبعضهم حُرم من إعادة الجثة، بل تم الضغط عليهم لدفنها في السعودية مقابل حوافز مالية تافهة. تخيّل أن تودع ابنك عاملًا طموحًا، فيُعاد إليك رمادًا باردًا وتوقيعًا على تعهد ألّا تطالب بأي حق.
جريمة مزدوجة: موت… ونهب بعد الموت
الانتهاك لا ينتهي عند الموت، بل يبدأ بعده. شركات البناء، وبعضها مملوك جزئيًا لصندوق الاستثمارات السعودي، تتعمد عدم تسليم ممتلكات العمال أو أجورهم المتأخرة إلى عائلاتهم. تستغل صمت السلطات، وغياب الرقابة، وتهرب من دفع التعويضات، في تكرار فجّ لنمط من الجشع الإجرامي الذي يتعامل مع العمال كأدوات يمكن التخلص منها، لا كبشر.
المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان أكدت مرارًا أن غياب الشفافية، ورفض التحقيقات، وتجاهل التواصل مع عائلات الضحايا، هو سياسة ممنهجة، لا مجرد إهمال فردي. عندما يُبنى اقتصاد على استغلال الإنسان حتى الموت، لا يعود مجرد خطأ… بل يصبح جريمة دولة.
الفيفا متواطئة… والعالم يصمت
الأخطر أن هذه الانتهاكات لا تُرتكب في الظلام. الفيفا، الاتحاد الدولي لكرة القدم، يعرف جيدًا ما يجري، ومع ذلك منح المملكة شرف استضافة مونديال 2034 دون أن يُطالب بضمانات حقيقية لحماية العمال. سبق أن فعل الشيء نفسه في قطر، ويبدو أنه ماضٍ في تكرار ذات السيناريو الدموي، لكن هذه المرة في بلد سجلّه الحقوقي أكثر سوادًا، وسجونه أكثر امتلاءً، وأجهزته أكثر توحشًا.
مايكل بيج، نائب مدير قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش”، قالها صراحة: “على الشركات والمشجعين أن يفكروا جيدًا قبل الدخول في شراكة مع السعودية لتنظيم هذه البطولة”. وإن لم يفعلوا، فهم شركاء في جريمة لا تقل خطورة عن أي انتهاك على أرض الملعب.
الإصلاح الكاذب… و”رؤية” تدهس البشر
يتحدث النظام ليلًا ونهارًا عن “رؤية 2030″، وتحويل المملكة إلى مركز عالمي للرياضة، والترفيه، والاقتصاد. لكن أي رؤية هذه التي تُبنى بجثث الفقراء؟ ما القيمة الأخلاقية لأي مشروع يُقتل فيه العامل ثم يُدفن بلا تفسير؟ كيف يمكن لبلد أن يدّعي الريادة، بينما يعجز عن تقديم خوذة سلامة لعامل بناء؟
الإصلاح الحقيقي يبدأ من الإنسان، من كرامته، من حقوقه، من أمنه في مكان العمل. أما تحويل الرياض إلى منصة دولية للرياضة على حساب دماء العمال، فهو نسخة حديثة من العبودية باسم “النهضة”.
ملعب على جسد… وكأس على جثة
ما يحدث في السعودية اليوم ليس استعدادًا للمونديال، بل تجهيز لمقبرة جماعية جديدة لا تختلف كثيرًا عن ما جرى في بطولات سابقة في الخليج. لكن هذه المرة، القمع أوسع، والفساد أعمق، والتواطؤ الدولي أقذر.
إذا لم يتحرك العالم، وإذا استمرت الشركات والاتحادات الرياضية في التطبيل لهذا النظام مقابل الأرباح، فإن كأس العالم 2034 لن يكون احتفالًا بالرياضة، بل شاهد قبر جماعي على حقوق الإنسان، والمساواة، والكرامة.
وستُكتب الحقيقة يومًا على الجدار:
هنا مات العمال، وهنا صمت العالم.