في ستينيات القرن الحالي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لجأت الحكومات والأنظمة إلى الاستعانة بالمهندسين والمعماريين أصحاب الخبرة العالية في القضاء على مشكلات السكان الاجتماعية والتنموية، حيث قام المصمم المعماري المصري عبد الرحمن مخلوف بتصميم المخطط الهيكلي لمدن المملكة السعودية (جدة – ومكة المكرمة والمدينة المنورة)، كما قام نفس المهندس بتصميم المخطط الهيكلي لمدينة أبو ظبي العاصمة الإماراتية، وعلى رغم تقارب السنوات التي تم فيها إنشاء تلك المدن الخليجية إلا أنها اختلفت من حيث المظهر النهائي ولم تتشابه إلا في ميزة واحدة من وجه نظر حكامها، هي الحداثة العالية، التي اعتمدت في جوهرها على التصميم المركزي، وقد لقبت تلك المدن بمدن الحداثة النفطية، وقد كانت تلك الفكرة في البداية تساعد السكان والأسر في بناء المساكن الخاصة، بعدما توفرت وسائل المواصلات المتمثلة في السيارة الخاصة بسبب تحسن الدخل ودخول السيارات إلى تلك الدول بدون ضرائب جمركية، حيث قد بلغت نسبة امتلاك السيارات في دول الخليج هي الأعلى على مستوى العالم.
استنادا إلى حرية التنقل التي تيسرت مع توفر السيارات ووسائل النقل، توسعت الدول في بناء المدن على نظام البيوت ذات الطوابق القليلة، وهو ما يعني التمدد الأفقي، ثم تسابقت الشركات والمؤسسات والعائلات في تشييد البيوت ثم الأبراج العالية حتى بات تضخم المشهد العمراني هو السمة المميزة لتلك المدن، وقد خلقت تلك العوامل من المجتمعات الخليجية مجتمعا استهلاكيا وفقط، على رغم توفر الميزانيات التي من شأنها أن تُفتح بها المصانع، وتزرع بها الأراضي، وتصبح الدولة منتجة ومصدرة بدلا من الاعتماد على النمط الاستهلاكي.
نيوم مدينة استهلاكية جديدة
وفق ما أعلنه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إن نحو 500 مليار دولار تم رصدها لتأسيس مدينة نيوم العالمية، التي لا تخضع لقوانين المملكة ولا هيكلها الإداري، لتكون المدينة الترفيهية الأولى في العالم، فهل ستنتج السعودية احتياجات نيوم؟
الحقيقة أن هذا لن يكون، لذا فإن نيوم ما هي إلا حلقة جديدة في سلسلة النمط الاستهلاكي الذي تعيش عليه الدول الخليجية، وكل ما في الأمر أن المملكة أوسعت فجوة الاستهلاك بضخ مليارات الدولارات على الأقل في المرحلة الأولى من خطة إنشاء نيوم، فكل احتياجاتها من أبسط الأشياء إلى أعقد التكنولوجيا لا تتوفر في المملكة بل هي كلها استيراد من الدول الخارجية، فبدلا من أن ينظر بن سلمان إلى تشييد مستقبل إنتاجي للمملكة يستوعب الأجيال القادمة في التوظيف في شتى مجالات العمل، مصححا الرؤية القديمة للملوك والأمراء، استمر في نهج السابقين، بتشييد حلمه الاستهلاكي الترفيهي الجديد.
تنويع مصادر الدخل القومي
تلك هي الكلمة التي يرددها ولي العهد مرارا وتكرارا في أحاديثه عن رؤيته المستقبلية، وعلى رغم ذلك لم يتحرك ولي العهد في تأسيس مدينة صناعية أو إنتاجية، توفر للشعب ما تقوم الحكومة باستيراده لسد احتياجاته، أو تضع خطة لعشر سنوات من الاكتفاء والتصدير لمنتجات معينة، بل شرعت أجنحة بن سلمان في الدولة في تأسيس مدن جديدة معتمدة كلها على الإنشاءات الحديثة، وتوفير وسائل الترفيه والحداثة دونما الإعلان عن تأسيس عدد من المصانع، أو التوسع الأفقي في الزراعة للمنتجات التي تناسب أجواء المملكة ومن ثم تصديرها، لتنويع مصادر الدخل كما زعم.
إن أزمة المملكة، لو كان ولي العهد يجهلها، هي الاعتماد الكامل على دخل النفط وميزانيته، وتحويله من مجرد وقود فعلي يسد احتياجات الدولة في بعض مجالاتها، إلى مصدر رئيسي للدخل، واعتماد أساسي في تحلية المياه، ومكيفات الهواء، وصناعة المبيدات الحشرية، حتى بات الواقع يقول، لو نفد النفط لعادت المملكة إلى العصور البدائية الأولى.
فما فائدة نيوم إذاً؟ وما العائد الذي من الممكن أن يجنيه الشعب من ضخ مليارات الدولار في عمليات استهلاك جديدة؟