في تصريح أثار استغراب المراقبين، قال وزير الإعلام السعودي إن المملكة “نموذج لحرية الرأي المسؤولة”، وهو ادعاء يبدو منفصلًا تمامًا عن الواقع الذي تعيشه البلاد فلا يزال العشرات من الصحفيين والنشطاء يقبعون خلف القضبان، فيما يواصل النظام قمع أي صوت ناقد، مستخدمًا القوانين التعسفية، والاعتقالات السرية، والاختفاء القسري، وحتى القتل. كيف يمكن للسعودية أن تدعي دعمها لحرية التعبير بينما تزداد سجونها امتلاءً بالمفكرين والإعلاميين؟ وكيف يمكن أن يُوصف بلد بأنه “نموذج لحرية الرأي”، بينما يخشى مواطنوه التغريد بآرائهم على منصات التواصل الاجتماعي؟
قائمة المحتوى
حرية التعبير في السعودية: بين الدعاية والواقع
منذ صعود محمد بن سلمان إلى السلطة، دخلت السعودية مرحلة جديدة من القمع الممنهج لحرية التعبير. ورغم وعود الإصلاح التي يُروج لها الإعلام الرسمي، إلا أن كل المؤشرات تؤكد أن النظام السعودي لا يزال يرى الكلمة الحرة كتهديد وجودي يجب سحقه.
الواقع المظلم لحقوق الإنسان في المملكة يتناقض بشكل صارخ مع التصريحات الحكومية التي تتغنى بـ”حرية الرأي المسؤولة”. فوفقًا لتقارير منظمات حقوق الإنسان، تُمارس السلطات السعودية الاعتقالات التعسفية ضد الصحفيين والمعارضين، وتفرض رقابة صارمة على الإنترنت، وتستخدم قوانين الإرهاب لمعاقبة التعبير السلمي عن الرأي. هذه السياسات جعلت السعودية واحدة من أخطر الدول على حرية الصحافة في العالم.
الصحافة السعودية ليست سوى صدى لما يريده النظام. وسائل الإعلام الرسمية لا تتناول إلا ما يخدم السلطة، في حين يتم تجاهل القضايا الحقوقية والانتهاكات المستمرة. ليس هناك مجال للنقد أو الاستقلالية، وكل من يحاول كسر هذا الحاجز يجد نفسه خلف القضبان.
اعتقالات وقمع ممنهج
في السنوات الأخيرة، تحولت السعودية إلى سجن مفتوح لكل من تجرأ على الحديث خارج الإطار الذي يرسمه القصر الملكي. ومن بين الحالات التي تفضح زيف الادعاءات الرسمية حول حرية الرأي، نجد:
جمال خاشقجي: الصحفي السعودي الذي قُتل بوحشية داخل القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018. التحقيقات الدولية أكدت أن قتله كان مدبرًا من قبل أعلى مستويات السلطة، لكن النظام السعودي حاول طمس الحقيقة عبر محاكمات صورية لمحاسبة منفذي الجريمة، بينما بقي المخططون في مناصبهم.
لجين الهذلول: ناشطة حقوقية بارزة اعتُقلت في 2018 بسبب حملتها ضد حظر قيادة المرأة للسيارة. رغم الإفراج عنها، إلا أنها لا تزال ممنوعة من السفر وتحت رقابة صارمة. لجين كشفت تعرضها للتعذيب والتحرش الجنسي أثناء احتجازها، في انتهاك صارخ لكل المعايير الإنسانية.
سلمان العودة: عالم دين إصلاحي تم اعتقاله لمجرد تغريدة دعا فيها للمصالحة بين السعودية وقطر. يواجه عقوبة السجن بسبب آرائه السلمية.
عبد الرحمن السدحان: موظف إغاثي اعتقلته السلطات السعودية بسبب منشورات ساخرة على تويتر، وحكم عليه بالسجن 20 عامًا تليها 20 عامًا أخرى من حظر السفر.
سلمى الشهاب، أكاديمية سعودية، حُكم عليها بالسجن 34 عامًا بسبب تغريدات تدعو إلى حقوق المرأة.
رائف بدوي، كاتب وناشط، حكم عليه بالسجن 10 سنوات وألف جلدة لمجرد مطالبته بفصل الدين عن الدولة.
محمد الغامدي، حُكم عليه بالسجن 23 عامًا بسبب منشورات ناقدة للسلطات على وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه الأسماء ليست سوى نموذج صغير لما يحدث داخل السعودية، حيث يتم استهداف الصحفيين والمفكرين وكل من يجرؤ على انتقاد السلطة.
الاختفاء القسري والتعذيب: أدوات القمع السعودية
الاعتقال وحده ليس العقاب الوحيد الذي يواجهه أصحاب الرأي الحر في السعودية. فالنظام يستخدم الإخفاء القسري والتعذيب النفسي والجسدي لكسر إرادة المعتقلين، ودفعهم إلى الاعتراف بتهم ملفقة.
هناك عشرات من الصحفيين والمعارضين الذين اختفوا قسرًا أو فُرضت عليهم الإقامة الجبرية. بعضهم تم اختطافهم من دول أخرى وإعادتهم إلى السعودية، حيث يواجهون محاكمات سرية وأحكامًا جائرة.
تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش تؤكد أن المعتقلين يتعرضون للضرب والصدمات الكهربائية والتحرش الجنسي والإيهام بالغرق، في سجون سرية لا تخضع لأي رقابة مستقلة.
“السعودية تدير نظام قمع متكامل ضد حرية التعبير، حيث يُسجن الأشخاص بسبب تغريدة أو تصريح، ويتعرضون للتعذيب لانتزاع اعترافات قسرية،” يقول جو ستورك، نائب مدير قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش.
القوانين الجائرة: سيف على رقاب المواطنين
في حين تدّعي السعودية دعمها لحرية التعبير، فإنها تواصل استخدام قوانين غامضة وفضفاضة لمعاقبة أي رأي لا يتماشى مع توجهات النظام. ومن بين هذه القوانين:
- قانون مكافحة الإرهاب: الذي يُستخدم على نطاق واسع لإسكات المعارضين، حيث يتم تصنيف أي انتقاد للنظام على أنه “إرهاب”.
- قانون الجرائم الإلكترونية: الذي يعاقب المواطنين على تغريداتهم ومنشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
في عصر السوشيال ميديا، لا تقتصر ملاحقات النظام على الصحفيين التقليديين، بل تشمل حتى مستخدمي تويتر ويوتيوب وإنستغرام. لا يوجد سقف آمن للنقد في السعودية، فحتى تغريدة واحدة قد تودي بصاحبها إلى السجن لعشرات السنين. المدونون، الناشطون، وحتى المواطنون العاديون ليسوا بمنأى عن رقابة النظام الأمنية.
هذه القوانين جعلت المواطنين السعوديين يخشون حتى التعبير عن آرائهم في الدوائر الخاصة، لأن الدولة تراقب الإنترنت وتستخدم الجواسيس للإبلاغ عن “الآراء غير المرغوب فيها”.
إدانة مستمرة بلا نتائج
رغم الانتقادات الدولية الواسعة لسجل السعودية في مجال حقوق الإنسان، إلا أن النظام السعودي يستفيد من تحالفاته مع القوى الكبرى لشراء الصمت الدولي. فالولايات المتحدة وأوروبا، رغم إدانتهما العلنية لبعض الانتهاكات، تستمران في إبرام صفقات سلاح بمليارات الدولارات مع المملكة، مما يجعل حقوق الإنسان ملفًا ثانويًا أمام المصالح الاقتصادية والجيوسياسية.
“السعودية تستخدم أموال النفط لشراء صمت الحكومات الغربية،” يقول ديفيد هيرست، رئيس تحرير ميدل إيست آي، مضيفًا: “لو كانت أي دولة أخرى ترتكب هذه الفظائع، لكانت العقوبات الدولية قد انهالت عليها، لكن المال السعودي يشتري الصمت.”
حرية التعبير في السعودية.. حق أم جريمة؟
بينما يحاول النظام السعودي تلميع صورته عبر التصريحات الجوفاء، فإن الواقع لا يمكن حجبه. السعودية ليست نموذجًا لحرية الرأي، بل نموذجًا للقمع المنهجي الذي يُمارس بغطاء من القوانين الجائرة والإفلات من العقاب.
إذا كانت السعودية تريد حقًا أن تكون نموذجًا لحرية الرأي، فلتبدأ بالإفراج عن الصحفيين المعتقلين، وإلغاء القوانين القمعية، والسماح للإعلام بالعمل بحرية دون خوف. وحتى ذلك الحين، سيبقى الحديث عن حرية التعبير في السعودية مجرد كذبة رسمية لا تنطلي على أحد.