في بلد يزعم أنه يسير على درب “الانفتاح”، ويغدق المليارات على الترفيه والسياحة، تُسجن الكلمات وتُحاكم الأفكار، ويُختطف الأجانب بسبب منشورات قد لا يتذكّرون حتى محتواها.
الاعتقال التعسفي للمحلل المالي البريطاني أحمد الدوش، بتهمة “الإرهاب” على خلفية منشور محذوف على مواقع التواصل الاجتماعي، يكشف ليس فقط قمع حرية التعبير، بل أيضًا الفجوة الهائلة بين دعاية بن سلمان وحديثه عن “التغيير”، وبين الواقع القائم على التخويف وكتم الأنفاس.
هذه الحادثة ليست معزولة، بل جزء من نمط منهجي يحكم المملكة: إسكات الداخل، وترويع الخارج، واعتبار كل رأي لا يُرضي الحاكم تهديدًا أمنيًا. لكن الخطر الحقيقي لم يعد داخليًا فقط، بل بات يهدد المشروع الاقتصادي السعودي بأكمله.
قائمة المحتوى
“منشور محذوف” يجرّ إلى محكمة الإرهاب
كشفت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية عن اعتقال المواطن البريطاني أحمد الدوش، المحلل المالي من أصول سودانية، أثناء زيارته لعائلته في الرياض.
وبحسب الصحيفة، فإن السلطات السعودية احتجزته منذ عدة أشهر، وتستعد لمحاكمته في أبريل المقبل، استنادًا إلى قوانين مكافحة الإرهاب، بسبب منشور قديم ومحذوف على وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى “صلة مفترضة” بأحد المعارضين السعوديين.
محامو الدوش نفوا أي صلة لموكلهم بأي نشاط سياسي، وأكدوا أنه خبير اقتصادي يعمل في بيئة دولية لا علاقة لها بالشأن الداخلي السعودي. لكن النظام، كعادته، لم يحتج إلى أدلة ولا إلى تبرير حقيقي. يكفي أن تكون الفكرة “مزعجة” حتى تُجرّم.
اعتقال اقتصادي بريطاني: الرسالة للمستثمرين قبل السياح
حين يُعتقل محلل اقتصادي أجنبي بسبب منشور، فالمستثمرون لا يحتاجون إلى تقرير شفاف ليعرفوا أن البيئة غير آمنة.
كل خبر كهذا، هو إنذار صارخ لرؤوس الأموال: لا حرية، لا ضمان، لا عدالة.
فما الجدوى من بناء مدينة كـ”نيوم”، أو الترويج لمواسم الرياض، إذا كانت السلطات لا تحتمل رأيًا حرًا على تويتر؟
بيئة طاردة: اعتقال يعادل خسارة ثقة سوق كاملة
قضية الدوش تكرّس المخاوف المتزايدة بشأن مناخ الاستثمار في السعودية. في ظل غياب الشفافية، وتسييس القضاء، وخضوع السوق لمزاج الحاكم، تتحول المخاطرة إلى رعب حقيقي لأي شركة أجنبية. السوق لا تقوم على المشاريع فقط، بل على ثقة تُبنى وتُدمر بحوادث كهذه.
وليس من قبيل المصادفة أن تصنيف السعودية في مؤشرات “سيادة القانون” و”حرية التعبير” و”الشفافية الاقتصادية” يشهد تراجعًا مستمرًا.
الاعتقالات لا تهدد فقط سمعة الدولة، بل تعني عمليًا:
- إحجام الشركات عن دخول السوق.
- تقليص الإنفاق الاستثماري طويل الأجل.
- صعوبة التوظيف الدولي.
- زيادة كلفة التأمين والضمانات في المشاريع المشتركة.
السياحة تحت المقصلة: حين يُسجن الزائر بدلًا من استقباله
تروّج المملكة لصورتها كوجهة سياحية مستقبلية، وتستهدف جذب 100 مليون زائر سنويًا بحلول 2030. لكن أي سائح سيغامر بالسفر إلى بلد يُعتقل فيه أجنبي بسبب “تغريدة سابقة”؟
الرسالة واضحة: في السعودية، حتى الزائر ليس آمنًا إذا عبّر عن رأيه، ولو قديمًا.
سارة ويتسون، مديرة “الديمقراطية للعالم العربي الآن” (DAWN)، قالت بوضوح: “أي أجنبي يدخل السعودية اليوم، عليه أن يعرف أن تغريدة قديمة قد تكون تذكرته للسجن.”
حرية التعبير… خرافة محظورة داخل المملكة
الاعتقالات لا تُمارس فقط ضد الأجانب، بل هي الأصل الثابت ضد السعوديين أنفسهم. من لجين الهذلول إلى سلمان العودة، ومن مناهل العتيبي إلى رائف بدوي، كل من تجرأ على التعبير عن رأي مستقل، دفع الثمن باهظًا.الصحفيون، الحقوقيون، رجال الدين، النساء، الشباب… القائمة تطول، والجرم واحد: “كلام لا يُرضي الحاكم”.
المنظمات الحقوقية الدولية، وعلى رأسها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، تواصل توثيق الانتهاكات، لكن النظام لا يبالي. محمد بن سلمان لا يرى إلا صورته الدولية، أما صوت الشعب، وحرية الفكر، واحترام القانون، فكلها تفاصيل لا تستحق عنده التوقف.
بن سلمان… غطرسة فوق الحساب
في مواجهة انتقادات منظمات دولية وبرلمانيين بريطانيين، يواصل النظام السعودي تجاهل الأصوات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وكأن شيئًا لم يحدث. بن سلمان يُمعن في سياسة “العناد المتعجرف”، مطمئنًا إلى صفقات الأسلحة وصفحات الترفيه التي تُغطّي الدم.
لكن كل فضيحة جديدة، وكل اعتقال تعسفي، تُراكم الضرر وتُعمّق العزلة. الاستثمار لا يحب القمع، والسوق لا تثق في الغطرسة.
حين يُسجن العقل.. يُفلس الاقتصاد
قضية أحمد الدوش لا تتعلق فقط باعتقال شخص، بل باعتقال صورة كاملة لاقتصاد مأزوم، ونظام غارق في التناقض.
بينما يشتري محمد بن سلمان الفعاليات والمباريات وحقوق البث، يسجن العقول، ويطرد الاستثمارات، ويخيف الزائر قبل المستثمر.
لن تجدي حملات العلاقات العامة شيئًا إذا كان كل منشور عرضة للتجريم، وكل رأي يُترجم إلى إرهاب.
ففي دولة تُدار بالقبضة لا بالقانون، وتُكافئ الولاء وتُعاقب الفكرة، لا يوجد مستقبل اقتصادي مهما كبرت الشعارات.
فالدوش ليس وحده في القفص.. بل معه وهم “الانفتاح السعودي”.