في الوقت الذي يشهد فيه الاقتصاد السعودي حالة من التراجع والتقشف وارتفاع الديون، لم يجد صندوق الاستثمارات العامة، أداة النظام المفضلة للإنفاق، ما يُنفق عليه سوى لعبة الغولف! عرض ياسر الرميان، رئيس الصندوق، مبلغًا خرافيًا يصل إلى 1.5 مليار دولار لشراء جولة PGA الأمريكية، فقط من أجل تلميع مشروع LIV الفاشل وإنقاذ وجه السعودية عالميًا.
هذا ليس استثمارًا، بل مقامرة علنية بأموال الشعب، تُدار من قِبَل حفنة من الأشخاص دون مساءلة، ودون أي جدوى اقتصادية، سوى وهم “الريادة العالمية” و”الانفتاح”. إنها نسخة سعودية حديثة من تضييع ثروات الشعوب تحت شعارات زائفة، ووسط صمت داخلي وتواطؤ خارجي.
قائمة المحتوى
صندوق الاستثمارات العامة: دولة داخل الدولة
أنشئ صندوق الاستثمارات العامة ليكون ذراعًا مالية لتنويع مصادر الدخل، لكنه تحول في عهد محمد بن سلمان إلى أداة مركزية لتمويل مغامرات غير محسوبة، لا تخضع لمساءلة برلمانية أو رقابة قانونية. يُدير الصندوق ياسر الرميان، اليد اليمنى لبن سلمان، ويمتلك سلطات شبه مطلقة في توجيه استثمارات الصندوق داخليًا وخارجيًا.
وفقًا لتقارير متعددة، تُتخذ قرارات استثمارية بمليارات الدولارات في قطاعات فاشلة أو مشبوهة – من الاستحواذ على نوادٍ كروية أوروبية إلى دعم مغنيين وفنانين وإقامة مهرجانات الترفيه، والآن ضخ 1.5 مليار دولار لإنقاذ دوري غولف لا يحظى حتى بمتابعة شعبية محلية!
الرياضة: أداة لتلميع الصورة على حساب الاقتصاد
منذ سنوات، تضخ السعودية مبالغ خرافية في قطاع الرياضة لأهداف سياسية ودعائية، فيما يعرف بمصطلح “sportswashing” – أي استخدام الرياضة لتحسين صورة النظام دوليًا والتغطية على الانتهاكات الحقوقية الداخلية.
تمتد قائمة الإنفاق من شراء نادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي، إلى تنظيم فعاليات مثل الفورمولا 1، ملاكمة، مصارعة، سباقات خيل، وحتى محاولة منافسة كأس العالم. لكن الأثر الاقتصادي لتلك الاستثمارات شبه منعدم – فهي لا توفّر وظائف، ولا تصنع اقتصادًا إنتاجيًا، بل تستهلك المليارات وتزيد من الديون.
1.5 مليار دولار… لأجل لعبة نخبوية!
ما كُشف أخيرًا حول عرض صندوق الاستثمارات العامة لشراء جولة PGA الأمريكية يختصر فوضى القرار الاستثماري السعودي. صحيفة الغارديان البريطانية نقلت تفاصيل المحاولة السعودية: عرض رسمي بـ1.5 مليار دولار، بشرط الحفاظ على دوري LIV المدعوم سعوديًا، ومنح ياسر الرميان منصب الرئيس المشارك في PGA.
الرد الأمريكي كان قاطعًا: “رفض شديد”. لأن جولة PGA ترى في LIV مشروعًا ملوّثًا سياسيًا، لا يستند إلى قاعدة جماهيرية أو سوق حقيقية، بل إلى دفعات مالية تهدف لإضفاء شرعية على نظام استبدادي.
الاقتصاد السعودي: أرقام تتهاوى تحت عبء الطموحات الفارغة
يتزامن هذا العبث المالي مع أزمة اقتصادية حقيقية تضرب الداخل السعودي. بحسب تقارير اقتصادية دولية، توقّع تباطؤ نمو الوظائف في المملكة من 10% عام 2022 إلى 3% فقط في 2026. الدين العام يتفاقم، الإنفاق الحكومي يتقلص، والضرائب تزداد. ومع ذلك، تُصر القيادة السعودية على إنفاق عشرات المليارات في مشاريع ترفيهية ورياضية لا تعود بأي نفع ملموس على المواطن.
في الداخل، تزداد الهوة بين مشاريع البذخ الخارجي والأوضاع المعيشية المتدهورة. يعاني المواطن السعودي من ارتفاع مستمر في الأسعار، وتقلّص فرص العمل، وتراجع جودة الخدمات العامة، بينما تُنفق الأموال بلا مساءلة على فعاليات رياضية لا تعني له شيئًا. تُشير تقارير إلى ارتفاع العجز المالي للمملكة لعام 2024، مما دفع الحكومة إلى زيادة الضرائب ورفع أسعار الوقود، في الوقت نفسه الذي ترعى فيه صفقات بمليارات الدولارات في ملاعب أمريكا وأوروبا.
ترامب.. الغولف قبل غزة
في مشهد يكشف حجم التداخل بين المال السياسي والرياضة الممولة سعوديًا، نشرت صحيفة واشنطن بوست تصريحات لآلان شيبناك، مؤلف كتاب “LIV and Let Die”، قال فيها:
“لقد جعل الرئيس ترامب من أولويات إدارته حل [مشكلة دمج رياضة الغولف]. حدسي هو أنه يهتم بمفاوضات جولة الغولف بين LIV وPGA أكثر من اهتمامه بغزة أو أوكرانيا.”
هذه التصريحات تؤكد أن استثمارات السعودية في الغولف لم تكن مجرد لعبة، بل أداة نفوذ سياسي تُستخدم للتقرب من دوائر الحكم في واشنطن، وبالأخص من ترامب، الذي يرتبط بعلاقات تجارية وشخصية مباشرة مع LIV وغولف السعودية.
من يتحمل مسؤولية هذا التدهور؟
في أي دولة تحترم مؤسساتها، يُحاسب من يضخ مليارات الدولارات في مشاريع خاسرة، خصوصًا إذا كانت الأموال من أموال الدولة، وليست من شركات خاصة. لكن في السعودية، لا أحد يُسائل الرميان، ولا حتى محمد بن سلمان نفسه. فهما من يديران اللعبة كاملة: من التخطيط، إلى التنفيذ، إلى الإعلام الذي يروّج للإنجازات الوهمية.
هذا الانفراد بالقرار، وإقصاء مؤسسات الرقابة والتشريع، يحوّل صندوق الاستثمارات العامة إلى “صندوق بن سلمان”، أداة شخصية لإنعاش أحلامه الشخصية، وليس صندوقًا وطنيًا لمستقبل الأجيال.
حين تتحوّل الغولف إلى عبء وطني: ثمن البذخ سيدفعه المواطن
ما جرى في ملف الغولف ليس سوى نموذج مصغر لمشكلة أعمق: إدارة الدولة بعقلية شركة خاصة، وغياب المساءلة، والخلط بين الدعاية والاقتصاد. لا مستقبل اقتصادي حقيقي في بلد تُدار ثرواته بهذه الطريقة.
وإن كان 1.5 مليار دولار تُنفق على “غولف فاشل”، فكم ضاعت من المليارات الأخرى في مشاريع لم يُكشف عنها بعد؟ ومتى يُحاسب من يتصرّف بمليارات السعوديين وكأنها دفتر شيكات شخصي؟