الدعاية السعودية المستمرة عن اقتصاد متنوع ومزدهر لم تصمد طويلًا أمام صدمة الأرقام القاتلة. بيان الميزانية الأخير كشف كل شيء دفعة واحدة: تراجع حاد في الإيرادات النفطية واتساع خطير في العجز المالي، وهو ما ينزع ورقة التوت عن رواية “رؤية 2030” التي رُوِّج لها باعتبارها مشروع الإنقاذ العظيم. اليوم، يقف النظام السعودي عاريًا أمام حقيقة مُرة لا يمكن التستر عليها: اقتصاد هش ما زال أسير النفط، وحكومة غارقة في الديون، ومشاريع استعراضية تبتلع المليارات دون أن ترد فلسًا واحدًا إلى خزائن الدولة.
قائمة المحتوى
ميزانية تتآكل وسط خطاب إنكاري عبثي
رغم محاولات الإعلام الرسمي السعودي تزيين الأرقام، إلا أن الحقائق لا تكذب. الإيرادات النفطية التي تمثل العمود الفقري لميزانية الدولة تعرضت لانخفاض حاد مقارنة بالسنوات الماضية، مما جعل العجز المالي يتسع بشكل يهدد قدرة المملكة على الاستمرار بالإنفاق دون اللجوء إلى مزيد من الديون أو السحب من الاحتياطي العام. هذه الكارثة لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة طبيعية لسياسات اقتصادية فاشلة، تراهن على الاستعراض بدل الإنتاج، وعلى بناء المدن الخيالية بدلاً من دعم القطاعات الحيوية التي يمكن أن تنقذ الاقتصاد من مصيدة النفط القاتلة.
رغم كل الكلام المزيف عن “التنويع الاقتصادي”، أثبتت ميزانية 2024 أن النفط لا يزال شريان الحياة الوحيد للمملكة. أي اهتزاز بسيط في سوق النفط العالمي، كما حدث مؤخرًا، يدفع الميزانية إلى العجز دون مقاومة تذكر. لم تُؤتِ الضرائب الجديدة ثمارها، ولم تجذب مشاريع الترفيه والسياحة الاستثمارات الأجنبية كما وعد محمد بن سلمان. النتيجة كانت أن الدولة وجدت نفسها مضطرة للاقتراض أو لابتلاع المزيد من الاحتياطي النقدي الذي كان يفترض أن يكون خط الدفاع الأخير، لا أن يُستنزف بهذه الطريقة العبثية.
الرؤية التي تحولت إلى سراب
ما سُمي بـ”رؤية 2030″ لم يكن أكثر من حزمة وعود وردية، سقطت واحدة تلو الأخرى أمام منطق الأرقام الصلبة. المشروعات العملاقة التي أنفقت عليها المملكة مئات المليارات — مثل نيوم، والقدية، والبحر الأحمر — لم تحقق حتى اليوم أي عائد استثماري حقيقي. الإنفاق المتواصل على هذه المشاريع يجري عبر القروض والتمويلات السيادية، لا عبر أرباح أو إنتاج فعلي. لا توجد عوائد تشغيلية معتبرة يمكنها سد العجز أو تمويل الإنفاق الحكومي دون الاعتماد على النفط.
كل ما تمخضت عنه الرؤية حتى الآن هو طفرة في الإنفاق الاستعراضي، وتضخم في المديونية العامة، وانكشاف اقتصادي يجعل المملكة أكثر هشاشة أمام أية صدمات خارجية، سواء من أسواق النفط أو النظام المالي العالمي. ومع غياب الإصلاحات البنيوية الحقيقية، لا يبدو أن هذه الرؤية كانت تملك خطة حقيقية أصلاً، بل كانت مجرد بروباغندا سياسية لتلميع صورة النظام داخليًا وخارجيًا.
الإنفاق الحكومي: ترف لا يتناسب مع حجم الأزمة
رغم وضوح الأزمة الاقتصادية، يواصل النظام السعودي تبديد الثروات على الترف الحكومي ومشاريع الدعاية الدولية. من استضافة الأحداث الرياضية العالمية، إلى شراء الأندية الأوروبية، إلى تنظيم المهرجانات الفاخرة، يتم ضخ مليارات الدولارات سنويًا في قطاعات لا تعود بأي مردود اقتصادي حقيقي، بل تستنزف الميزانية المنهكة أصلًا.
بدلاً من توجيه الموارد نحو تطوير الصناعة الوطنية، وتحفيز التعليم والبحث العلمي، وتنمية القطاعات الإنتاجية، يواصل النظام إنفاقه على مظاهر استعراضية هدفها الوحيد هو تلميع صورة الحاكم أمام العالم. في المقابل، يعاني المواطن السعودي من ضرائب مرتفعة، وتكاليف معيشة متصاعدة، وخدمات حكومية تتراجع جودتها عامًا بعد عام، دون أن يجرؤ أحد على مساءلة هذا العبث المالي العلني.
الديون تتراكم والأجيال القادمة تدفع الثمن
في ظل تراجع الإيرادات واتساع العجز، لا تجد الحكومة السعودية بديلاً عن الاقتراض. الدين العام يتضخم بوتيرة مقلقة، ومع كل إصدار جديد للسندات أو الصكوك، يتم رهن مستقبل الأجيال القادمة لخدمة الدين بدلاً من خدمة التنمية. ومع غياب الشفافية حول شروط هذه القروض واستخداماتها، يصبح من الواضح أن الاقتصاد السعودي يتحرك نحو كارثة مؤجلة، لا ينقصها سوى صدمة خارجية واحدة لتفجرها بالكامل.
الحديث الحكومي عن “الضبط المالي” و”الإدارة الحكيمة للموارد” أصبح نكتة سمجة لا يصدقها أحد، فكيف يمكن الحديث عن ضبط مالي بينما تُصرف مليارات الدولارات على تلميع المشاريع الفارغة والصفقات الترفيهية؟
الانهيار السياسي قادم مع الانهيار الاقتصادي
ما يغفله النظام السعودي هو أن الأزمات الاقتصادية لا تبقى محصورة في الأرقام والموازنات، بل تنفجر سياسيًا واجتماعيًا عندما يعجز المواطن عن تلبية احتياجاته الأساسية، وحين يشعر بأن دولته تسرق أحلامه مقابل أوهام المهرجانات والمؤتمرات الدولية.
إذا استمر اتساع العجز المالي، وإذا استمرت الأسعار في الارتفاع، وإذا استمر الإنفاق العبثي بلا مساءلة، فإن المملكة ستكون على موعد مع تصدع داخلي لا تنفع معه لا صفقات التطبيع، ولا صفقات السلاح، ولا حتى تزييف الوعي عبر الإعلام الرسمي.
العجز المالي شهادة وفاة لمشروع بن سلمان
الميزانية السعودية التي أظهرت تراجع الإيرادات النفطية واتساع العجز ليست مجرد وثيقة مالية، بل شهادة وفاة رسمية لرؤية 2030 ومشروع محمد بن سلمان بأكمله.
السعودية اليوم على حافة أزمة اقتصادية عميقة، تصر قيادتها على تجاهلها عبر الاستعراض والتضليل، لكنها ستنفجر عاجلاً أو آجلاً تحت وطأة الحقائق التي لا يمكن شراء صمتها بالمهرجانات أو صفقات الغواصات.
والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة: كم ميزانية عاجزة أخرى يحتاجها النظام السعودي ليدرك أن السقوط الاقتصادي يقود حتمًا إلى سقوط سياسي مهما كانت القبضة الأمنية محكمة؟